حكم صيام بعض أيام رجب: شهر رجب من الأشهر الحرم للحديث الحصحيح الذي رواه الإمام البخاري ومسلم عن أبي بكرة أن النبي ﷺ خطب في حجة الوداع فقال في خطبته: ” إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان”، وذكر الحديث، قال الله عز وجل:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]
فأخبر سبحانه أنه منذ خلق السماوات والأرض وخلق الليل والنهار يدوران في الفلك وخلق ما في السماء من الشمس والقمر والنجوم وجعل الشمس والقمر يسبحان في الفلك وينشأ منهما ظلمة الليل وبياض النهار فمن حينئذ جعل السنة اثني عشر شهرا بحسب الهلال فالسنة في الشرع مقدرة بسير القمر وطلوعه لا بسير الشمس وانتقالها كما يفعله أهل الكتاب.
وجعل الله تعالى من هذه الأشهر أربعة أشهر حرما وقد فسرها النبي ﷺ في هذا الحديث وذكر أنها ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو شهر رجب.
اختلاف أنظار العلماء في صوم شهر رجب
أما ما يخص مذاهب الفقهاء بصوم شهر رجب فقد اختلفت أنظارهم في حكم صيام شهر رجب إلى رأيين:
- ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية وهو قول في مذهب الحنابلة إلى استحباب صيام شهر رجب كله .
- وذهب الحنابلة إلى كراهة إفراد شهر رجب كله بالصوم دون سائر الشهور، وتزول الكراهة عندهم بفطر يوم منه أو يومين أو بصيام شهر آخر إضافة إليه، واختلف الحنابلة في تخصيص الأشهر الحرم بالصيام :فذهب بعضهم إلى استحباب ذلك، ولم يذكر الأكثرون استحباب ذلك .
مذهب الحنفية في صوم شهر رجب
جاء في “الفتاوى الهندية» (1/ 202): (المرغوبات من الصيام أنواع) أولها صوم المحرم والثاني صوم رجب والثالث صوم شعبان وصوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم عند عامة العلماء والصحابة – رضي الله تعالى عنهم -“.
والذي يندب صيامه عند الحنفية في الأشهر الحرم أن يصوم ثلاثة أيام من كل منها، وهي الخميس والجمعة والسبت.
مذهب المالكية في صوم شهر رجب
جاء في شرح خليل – وهو يعدد أنواع الصيام المندوبة – قال: والمحرم ورجب وشعبان، يعني: أنه يستحب صوم شهر المحرم وهو أول الشهور الحرم، ورجب وهو الشهر الفرد عن الأشهر الحرم.
وقال في الحاشية للعدوي: (قوله: ورجب) ، بل يندب صوم بقية الحرم الأربعة وأفضلها المحرم فرجب فذو القعدة فالحجة.
وجاء في الفواكه الدواني: (و) من المرغب في صومه شهر (رجب) بالصرف وعدمه وهو مشتق من الترجيب وهو التعظيم، ويسمى بالأصم بالميم لأن العرب كانت لا تسمع فيه صوت السلاح وهو فرد من الأشهر الحرم، وبقيتها الثلاثة متوالية: القعدة والحجة والمحرم، وأفضل الأربعة المحرم كما قال بعضهم أخذا من حديث: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل».
لكن ما أضحه حاشية الدسوقي يبين أن هذا صيام هذا الشهر وإفراده بذلك لفضله يلزمه النص: (قوله ورجب) اعترض … رجب بما نقله عن ابن حجر بأنه لم يرد في فطر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه معين حديث صحيح يصلح للحجة انظره ولذا قال ولو قال المصنف والمحرم وشعبان لوافق المنصوص اهـ.
مذهب الشافعية في صوم شهر رجب
قال النووي في المجموع: قال أصحابنا ومن الصوم المستحب صوم الاشهر الحرم وهي ذوالقعدة وذو الحجة والمحرم ورجب وأفضلها المحرم قال الروياني في البحر أفضلها رجب وهذا غلط لحديث أبي هريرة الذي سنذكره إن شاء الله تعالى ” افضل الصوم بعد مضان شهر الله المحرم .
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في (أسنى المطالب): (وأفضل الأشهر للصوم) بعد رمضان الأشهر (الحرم) ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب لخبر أبي داود وغيره «صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك» وإنما أمر المخاطب بالترك لأنه كان يشق عليه إكثار الصوم كما جاء التصريح به في الخبر أما من لا يشق عليه فصوم جميعها له فضيلة (وأفضلها المحرم) لخبر مسلم «أفضل الصوم بعد رمضان شهر الله المحرم» (ثم باقيها) وظاهره استواء البقية والظاهر تقديم رجب خروجا من خلاف من فضله على الأشهر الحرم.
مذهب الحنابلة في صوم شهر رجب
قال ابن قدامة في المغني: ويكره إفراد رجب بالصوم. قال أحمد: وإن صامه رجل، أفطر فيه يوما أو أياما، بقدر ما لا يصومه كله.
ووجه ذلك، ما روى أحمد، بإسناده عن خرشة بن الحر، قال: رأيت عمر يضرب أكف المترجبين، حتى يضعوها فى الطعام. ويقول: كلوا، فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية.
وبإسناده عن ابن عمر، أنه كان إذا رأى الناس، وما يعدون لرجب، كرهه، وقال: صوموا منه، وأفطروا.
وعن ابن عباس نحوه، وبإسناده من أبى بكرة، أنه دخل على أهله، وعندهم سلال جدد وكيزان، فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب نصومه. قال: أجعلتم رجب رمضان، فأكفأ السلال، وكسر الكيزان.
قال أحمد: من كان يصوم السنة صامه، وإلا فلا يصومه متواليا، يفطر فيه، ولا يشبهه برمضان.” اهـ.
والراجح المختارلا في مذهب الحنابلة كراهة صوم رجب كله أو إفراده بالصوم لاجل فضله:
قال المرداوي في الإنصاف: ويكره إفراد رجب بالصوم. هذا المذهب، وعليه الأصحاب، وقطع به كثير منهم. وهو من مفردات المذهب. وحكى الشيخ تقى الدين في تحريم إفراده وجهين. قال في «الفروع»: ولعله أخذه من كراهة أحمد..
حكم صيام بعض أيام رجب
شهر رجب واحد من شهور السنة، وصيام النافلة في جميع شهور السنة مشروع إلا في رمضان والعيدين وأيام التشريق، ويوم الجمعة، فأما شهر رمضان فلأنه ليس محلا للتطوع، وأما غيره فلما صح من النهي عن صيام النافلة فيه.
أما شهر رجب فلم يصح في فضل صيامه شيء فهو كغيره من سائر الشهور.
ومع أن صيام النافلة مشروع فيما عدا هذه المواضع إلا أنه يكون في بعضها أوكد من بعض، وتتأكد المشروعية في بعض هذه الأيام حتى يصير الصيام سنة وهديا ثابتا عن رسول الله ﷺ.
من ذلك صيام الاثنين والخميس، فصيام أثانين وأخمسة السنة كلها – ومنها شهر رجب– سنة ثابتة عن رسول الله ـ ﷺ ـ ، وإن كان صيام الإثنين أثبت من يوم الخميس ما لم يقصد الصائم بصيامه إياها تعظيم شهر رجب.
فعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ سئل عن صوم الاثنين فقال: ( فيه ولدتُ، وفيه أُنزل عليَّ ، رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنه قالت: ( كان النبي ﷺ يتحرَّى صوم الاثنين والخميس) رواه الترمذي، وغيره، وصححه الشيخ الألباني.
ومن ذلك صيام الأيام البيض من كل شهر، فعن أبي أبا ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله ﷺ: ( إذا صمتَ شيئا من الشهر فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة) رواه الترمذي وغيره، وصححه الشيخ الألباني.
بل أصل صيام ثلاثة أيام من كل شهر سنة ثابتة سواء أكانت من أول الشهر أو من وسطه، أو من آخره، فعن معاذة العدوية أنها سألت عائشة زوج النبي ﷺ: أكان رسول الله ﷺ يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ؟ قالت: نعم. فقلت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم ؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم. رواه مسلم.
ومن ذلك صيام يوم ، وإفطار يوم، ففي صحيحي البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال” أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام وأحب الصيام إلى الله صيام داود وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ويصوم يوما ويفطر يوما.
فصيام هذه المواضع سُنةٌ من كل شهرٍ، سواء في ذلك رجب وغيره إلا في المواضع التي ذكرنا النهي عن التطوع فيها.
وسواء في ذلك الصيام لمن كانت له في ذلك عادة أو لمن لم تكن له عادة، أو تطوع بهذا الصيام بنية تدريب نفسه على الصيام بين يدي شهر رمضان.
حكم الإكثار من الصيام في شهر رجب بنية اعتقاد أفضلية الصيام فيه عن غيره من الشهور
والجواب أنه لو صح حديث ( صم من الحرم واترك ) لكان حاسما لكل نزاع، وكان كافيا في إثبات فضل الصيام في شهر رجب كواحد من الأشهر الحرم، ولكن الحديث ضعيف، رواه أبو داود وغيره من حديث المجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها، والحديث فيه اضطراب يوجب تضعيفه، وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر، وصرح الشيخ الألباني فيه بالتضعيف.
ولذلك قال الإمام ابن القيم :ولم يصم ﷺ الثلاثة الأشهر سردا ( أي رجب وشعبان ورمضان ) كما يفعله بعض الناس ولا صام رجبا قط ولا استحب صيامه.
وقال الحافظ ابن حجر في تبين العجب بما ورد في فضل رجب: لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه معيّن ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ وكذلك رويناه عن غيره.
وفي صحيح مسلم أن عثمان بن حكيم الأنصاري قال: ” سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب ؟ ونحن يومئذ في رجب فقال سمعت ابن عباس رضي الله عنها يقول كان رسول الله ﷺ يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم
قال الإمام النووي:-
الظاهر أن مراد سعيد بن جبير بهذا الاستدلال أنه لا نهى عنه ولا ندب فيه لعينه، بل له حكم باقي الشهور، ولم يثبت في صوم رجب نهي ولا ندب لعينه، ولكن أصل الصوم مندوب إليه.
وعلى ذلك فالصيام في شهر رجب مشروع فيه كله كغيره من الشهور، وبعضه أوكد من بعض، كأيام الإثنين والخميس فيه، وكأيام البيض منه، إلا أن الصيام فيه ليس بأفضل مما في غيره من الشهور، فليس للصيام فيه فضل على غيره.
ومن صامه معظما إياه، أو اعتقد أن صيامه أفضل من غيره كان مبتدعا، معظما له من عند نفسه، دون أن يكون له سند في ذلك من كتاب أو سنة.
ولذلك فإن سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- كان ينهى عن صيام رجب لما فيه من التشبه بالجاهلية كما ورد عن خرشة بن الحر قال: رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول: كلوا فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية. صححه الشيخ الألباني في الإرواء.
دار الإفتاء ما حكم صوم بعض أيام من شهر رجب
جاء في فتوى دار الإفتاء الإردني:
ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية، وبعض الحنابلة إلى استحباب الصيام في شهر رجب، كما يستحب صيام باقي الأشهر الحرم، وهي: محرم، وذو القعدة، وذو الحجة.
واستدلوا لذلك ببعض الأحاديث الواردة، منها قوله ﷺ -حين سئل عن سبب صومه شهر شعبان-: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ) رواه النسائي (2357)، قالوا: دل هذا الحديث على أن شهري رجب ورمضان شهرا عبادة وطاعة لا يغفل الناس عنها.
وقد وردت أحاديث أخرى ضعيفة الإسناد كما قال الحافظ ابن حجر، منها حديث: (صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ) رواه أبوداود، ولكن قالوا: الأحاديث الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال، وأما الأحاديث الموضوعة الواردة في فضل رجب فيجب الحذر منها، والتنبه لها.
يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله: “روي في فضل صومه أحاديث كثيرة موضوعة، وأئمتنا وغيرهم لم يعولوا في ندب صومه عليها، حاشاهم من ذلك، وإنما عولوا على ما قدمته وغيره -وقد ذكر بعض الأحاديث الضعيفة ثم قال:- وقد تقرر أن الحديث الضعيف والمرسل والمنقطع والمعضل والموقوف يعمل بها في فضائل الأعمال إجماعاً، ولا شك أن صوم رجب من فضائل الأعمال، فيكتفى فيه بالأحاديث الضعيفة ونحوها” انتهى من “الفتاوى الفقهية الكبرى” (2/54)
ثم إنه اشتهر في الآونة الأخيرة الفتوى بالمعتمد في مذهب الحنابلة أنه يكره إفراد شهر رجب بالصيام، خشية أن يظن الناس فرضية صومه كرمضان، ولِما ورد من آثار عن بعض الصحابة الكرام.
حيث استدلوا بما رواه ابن أبي شيبة في “المصنف” (2/345) عن خرشة بن الحر قال: “رَأَيْتُ عُمَرَ يَضْرِبُ أَكُفَّ النَّاسِ فِي رَجَبٍ، حَتَّى يَضَعُوهَا فِي الْجِفَانِ، وَيَقُولُ: كُلُوا، فَإِنَّمَا هُوَ شَهْرٌ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ”. ينظر “المغني” لابن قدامة (3/53)
والجواب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد النهي عن تشبيه رجب برمضان حتى لا يعتقد الناس وجوب صيامه كصيام رمضان، فنهى بعض الصائمين الذي خشي عليهم ذلك الظن، فهي سياسة شرعية منه رضي الله عنه.
ولذلك قال الحنابلة رحمهم الله: تزول الكراهة بإفطار يوم واحد فيه، أو صيام شهر آخر كاملاً كي لا يفرد رجب بالصيام.
فمن اعتاد صيام النوافل، وأكثر الصيام في شهر رجب رجاء الثواب فيه فلا ينكر عليه أحد من مذاهب الفقهاء الأربعة المعتمدة. والله أعلم.