قرَّر الفقهاء أن أخذ اللقيط واجبٌ على مَن يجده؛ لأنه إحياء لنفسٍ صارت مجودة، ومِن هنا قال الفقهاء : مُضَيِّعُهُ آثِمٌ، وآخِذُهُ غانمٌ، واللقيط متى ثبت نسَبه ثبتت له جميعُ حقوق البُنُوَّةِ، مِن نَفقةٍ وتربية وميراث، أما إذا لم يدَّعِ أحدٌ نسبه فإنه يظلُّ بيد المُلتقط، تكون له وِلايته وعليه تربيته ، ونفقتُه في تلك الحالة واجبة على بيت المال، يُنفق عليه وهو في يَدِ المُلتقط، واللقيط أحقُّ بالعطف والرعاية مِن كل ذي حاجة سواه .

يقول الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق-رحمه الله-:
عُنِيتْ الشريعة الإسلامية بالنظر إلى الأطفال، وعَرَض الفقهاء لنوعٍ خاص منهم، وهو أجدرهم بالعناية، نظرًا لفقده مَن يَعُوله ويتعهَّده من أبٍ أو قريب، وذلك النوع هو المعروف عند الناس باسم: “اللقطاء” فعرَّفوا اللقيط، وبيَّنوا أحكامه من جميع جهاته في بحثٍ مستقل، وتحت عنوان خاص هو: “باب اللقِيط” وقد عرفوه بأنه مولود حيٌّ، طرحه أهله خوفًا من الفقر، أو فِرارًا من التُّهْمة، وهو تعريف يُصور لنا شأن اللقيط باعتبار الأسباب التي تدعو غالبًا إلى نبْذه وطرحه، وأنها لا تكاد تخرج عن أمرين: إما الخوْف من الفقر وعدم القُدرة على تربيته والإنفاق عليه، وإما الخوْف من تُهمة العرض.

وقد قرَّروا أن أخذه والتقاطه واجبٌ على مَن يجده؛ لأنه إحياء لنفسٍ صارَ لها حظٌّ في الوجود، ويُرجى أن يكون لها نفع في الحياة، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: (ومَن أحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا الناسَ جَمِيعًا). والواقع أن ترْكه مع القدرة على أخذه والتقاطه تضييع له وقضاء عليه.

وهذا القدْر كافٍ في تحقُّق مسئولية التقصير في حفظ حياة الحيِّ، وهي مسئولية تدخل في جوِّ المسئوليات الجنائية في نظر الشرائع والقوانين، ومِن هنا قال الفقهاء ـ ترغيبًا في الْتقاطه وتحذيرًا من ترْكه ـ مُضَيِّعُهُ آثِمٌ، وآخِذُهُ غانمٌ، وكيف لا يكون أخْذُه واجبًا وغُنْمًا، وترْكه مُحرمًا وإثْمًا، وقد دلَّ تاريخ اللقطاء على أن فيهم مَن يختصُّه الله بكثير مِن فضله، فيَقود الأمم، ويُرشد الناس إلى الخير والصلاح؟

نسَبُ اللَّقِيطُ ونَفَقَتُه:
واتَّفقَ أهل الفقه أنه إذا ادَّعى نسَب اللقيط رجلٌ مسلم، وهو يعتقد أنه ليس ابن غيره، ثبت نسَبه منه، حِفْظًا لكرامته وإعزازًا له بين أُمته بانتسابه إلى أبٍ معروف، ومتى ثبت نسبُه ثبتت له جميعُ حقوق البُنُوَّةِ، مِن نَفقةٍ وتربية وميراث، أما إذا لم يدَّعِ أحدٌ نسبه فإنه يظلُّ بيد المُلتقط، تكون له وِلايته وعليه تربيته وتثقيفه بالعلْم النافع في الحياة، أو الصَّنْعَة الكريمة المُثمرة، حتى لا يكون عالةً على الأُمَّة، ولا مَنْبَعَ شقاء للمجتمع. ونفقتُه في تلك الحالة واجبة على بيت المال، يُنفق عليه وهو في يَدِ المُلتقط، ويكون الملتقط مسئولًا عنه في كل ما يحتاجه وينفعه من عملٍ وتوْجيه. وقد ورَد عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال لمَن التقطَ طفلًا: “لكَ ولاؤُهُ، وعلينا نَفَقَتُهُ”. وكان يفرض له مِن النفقة ما يُصلحه ويقوم بشأنه، ويُعطيه لولِيِّه كل شهر، ويُوصي به خيرًا. ومع هذا قرَّر الفقهاء أن المُلتقط إذا كان سيئ التصرُّف، لا يهتدي إلى وُجوه التربية المثمرة، أو كان غير أمين على ما يُعطي مِن نفقته، وجب نزعُه مِن يده، ويتولى الحاكم عندئذ تربيته والإشراف عليه، كما يتولَّى رزقه ونفقتُه.

واجب الجماعة للقيط:
ولم يقف الفقهاء عند هذا الحدِّ في تمهيد طريق الحياة للقيط، ووسائل العناية بتربيته، والإنفاق عليه، بل قدَّروا خُلُوَّ بيت المال عن سداد حاجة اللقيط، وتَعَذُّرِ الإنفاق عليه من جهة ولِيِّ الأمر وعجزه عن القيام بشأنه، قدَّروا ذلك وقرَّروا أنه يجب في تلك الحالة على جماعة المسلمين أن يتعاونوا على البِرِّ به والإنفاق عليه، ويكون ذلك مِن الشئون الخيْرية العامة التي رغَّب القرآن في التعاون عليها وحبَّب فيها، وأنْكر على المُتخاذِلينَ عنها (وتَعَاوَنُوا علَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى). (الآية: 2 من سورة المائدة) (ويُطعمونَ الطعامَ على حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأَسِيرًا). (الآية: 8 من سورة الدهر). (أرَأيتَ الذي يُكَذِّبُ  بالدِّينِ. فذلكَ الذِي يَدُعُّ اليتيمَ. ولا يَحُضُّ على طعامِ المِسْكِينِ). (أول سورة الماعون). (كلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ. ولا تَحَاضُّونَ علَى طعَامِ المِسْكِينِ). (الآيتان: 17 ـ 18 من سورة الفجر).

ولا ريب في أنَّ اللقيط قد جمع معاني اليُتْمِ والمَسْكنة والأَسْرِ، فهو يتيم فقَدَ أباه ومن يرعاه، ومسكين أُسكن في التراب وفي الزقاق وفي الشواطئ، وأَسير شُدَّ وَثَاقُهُ، وكُبِّلَتْ حياته، وعُقدتْ عليه سُبُلُها. فهو ـ إذنْ ـ أحقُّ بالعطف والرعاية، والحضِّ على إطعامه مِن كل ذي حاجة سواه، ولا يبعد أن يكون لهذه الآيات الكريمة أثرٌ كبيرٌ في توجيه أهل الخير إلى تأليف جمعياتِ الطفولة المُشرَّدة، ومدُّها بوسائل الحياة لإيوَائها والعناية بها.