يرى الذين يسوغون ربا القروض، أن من مؤيدات مشروعيته ما يتعرض له النقد من هبوط قيمته في أسواق التداول، فبض العملات تهبط قيمتها خلال عام أو أقل وهكذا، فإذا أخذ المقرض بعد عام من إقراضه المبلغ الأول أخذ مبلغ إضافي، فهي في الحقيقة ليست إلا تعويضا عن خسارة النقد، وإن بدت في الظاهر فائدة زائدة.

والجواب عن هذه الشبهة يأتي من عدة جوانب.
الجانب الأول:
أن القرض من حيث هو، تعاون أخلاقي في ميزان الشريعة الإسلامية، ولا يكون التعاون كذلك إلا إذا قام على نوع من الإيثار، ولذلك كانت مثوبة الإقراض أجزل من مثوبة الصدقة، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تلك هي نظرة الشريعة الإسلامية إلى الإقراض، وهي مختلفة، بحكم البداهة، عن نظرة المجتمعات الغربية ونحوها، فاتخاذ النظرة الغربية المادية أساسا تقاس به أحكام الشريعة الإسلامية خطأ كبير في فهم الأسس والمنطلقات.

الجانب الثاني: أن الخسارة التي يتعرض لها المقرض، بإقراضه، ليست محصورة في هبوط قيمة النقد وحده، بل ثمة خسارة أخرى، هي أكثر احتمالا ما دام الأمر يوزن بهذا الميزان المادي الأناني وحده، وهي أن المقرض عندما يحجز نفسه عن المال الذي أقرضه لغيره طوال المدة التي أقرضه خلالها، فإنه خسر الأرباح التي كان بوسعه إن يجنيها من ذلك المال، لو أبقاه في حوزته، وأدخله ضمن مشاريعه وأعماله التجارية، وتلك هي بالضبط حجة المرابين، بدءا من اليهود الذين أهم أول من روجوا الربا في أسواق العالم إلى الذين جاءوا فتبعوهم في ذلك من بعد.
فإذا جاز، في ميزان الشارع، أخذ الفائدة الربوية ، بدلا عن هبوط قيمة النقد، فلماذا لا يجوز أخذ هذه الفائدة ذاتها في ميزان الشارع أيضا، بدلا من فوات فرصة الاستفادة من المبلغ الذي تم إقراضه خلال مدة الإقراض.

الجانب الثالث: إننا لو سلمنا بان المقرض يتضرر من إجراء إقراضه المال لمدة هبطت قيمته خلالها، وبأنه ضرر مسلم به شرعا، وبأن المسألة تخضع للقاعدة القائلة: لا ضرر ولا ضرار،والقاعدة القائلة: الضرورات تبيح المحذورات، والقائلة: الضرر يزال لو سلمنا بذلك كله، فإن علاج ذلك لا يتم عن طريق الربا، ذلك لأن القاعدة الفقهية تقول أيضا: الضرر لا يزال بمثله، وإذا كان رجوع المال إلى صاحبه المقرض صادف هبوطا في قيمته عن يوم الإقراض، فعاد من جراء ذلك ضرر على المقرض، فإن معالجة هذا الضرر، بفرض فائدة ربوية فيه على المقترض، يعود بضرر أبلغ على المجتمع ونظامه الاقتصادي، وسيرتد هذا الضرر أخيرا على الأفراد، ومنهم شخص المقرض ذاته.

ذلك لأن هبوط قيمة النقد لا يعالج باستحصال كمية نقدية زائدة، وإنما يعالج بإعادة المواءمة بينه وبين المنفعة التي تطرح في المجتمع.

إننا لو طرحنا في السوق مزيدا من العملة الورقية كلما ازدادت قيمته هبوطا، لخلقنا بأيدينا تضخما نقديا يعود أبلغ الضرر على المجتمع كله، ونتيجة ذلك، إن عاجلا أو آجلا، أن يعود ذلك بالخسارة والضرر على الأفراد كلهم، وفي مقدمتهم هذا الذي عالج التضخم بتضخم أشد منه وأخطر.

وإنما العلاج، أن أبى المقرض بقرضه تقربا إلى الله عز وجل، ونيل مثوبة أبلغ من مثوبة الصدقة، أن يقول المقترض، أشركني معك في الربح الذي ستجنيه من وراء هذا المال الذي تستقرضه مني، ما دمت تأخذه ابتغاء ربح تجاري لا ابتغاء ضرورة معيشية.
فهذه الزيادة التي يتقاضاها المقرض، لا تشكل أي خداع اقتصادي ولا تعقب أي تضخم نقدي، ما دامت منوطة بمنفعة ينالها المجتمع، بحيث لو خسرت الصفقة التجارية لم ينل المقترض شيئا مما اشترط أخذه من الربح، ولم ينل إلا ماله الأصلي المتبقي.