المعلوم من الدين بالضرورة:
هناك أشياء أطلق عليها علماء أمتنا الكبار اسم ” المعلوم من الدين بالضرورة “، ويقصدون بها الأمور التي يستوي في العلم بها الخاص والعام، ولا تحتاج إلى نظر واستدلال عليها، لشيوع المعرفة بها بين أجيال الأمة وثبوتها بالتواتر واليقين التاريخي.
وهذه الأشياء تمثل الركائز أو “الثوابت” التي تجسد إجماع الأمة، ووحدتها الفكرية والشعورية والعملية.
ولهذا لا تخضع للنقاش والحوار أساسًا بين المسلمين، إلا إذا راجعوا أصل الإسلام ذاته.

ومن هذه الأمور: أن اللّه تعالى لم ينزل أحكامه في كتابه، وعلى لسان رسوله، للتبرك بها، أو لقراءتها على الموتى، أو لتعليقها لافتات تزين بها الجدران، وإنما أنزلها لتتبع وتنفذ، وتحكم علاقات الناس، وتضبط مسيرة الحياة وفق أمر اللّه ونهيه، وحكمه وشرعه.
وكان يكفي هذا القدر عند كل من رضي باللّه ربًا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولاً، وبالقرآن منهاجا؛ لأن يقول أمام حكم اللّه ورسوله: سمعنا وأطعنا، دون حاجة إلى بحث عن دليل جزئي من النصوص المحكمة والقواعد الثابتة.

الأدلة على الحكم بما أنزل الله:

هناك أدلة كثيرة على فرضية الحكم بما أنزل الله:
مع تنازلنا عن هذا الموقف، والتبرع بإقامة الأدلة على فريضة الحكم بما أنزل اللّه، ووجوب اتباعه من المسلمين. نقول بكل تأكيد:
إن هناك أدلة لا تحصر من القرآن والسنة ــ غير آيات سورة المائدة التي وصفت من لم يحكم بما أنزل اللّه بالكفر والظلم والفسق ــ تدل بقوة ووضوح على ضرورة الاحتكام إلى ما أنزل اللّه، والنزول على حكم اللّه، وافق أهواءنا أم خالفها.

1 -لنقرأ الآيات من ســورة النساء:
قال تعالى: (ألم تر إلى الذين يَزْعُمُون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يـضلهم ضلالاً بعيدًا. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا. فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون باللّه إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا. أولئك الذين يعلم اللّه ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغًا. وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا اللّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللّه توابًا رحيمًا. فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شَجَر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حَرَجًا مما قـضيت ويسلموا تسليمًا). (النساء 60 – 65).

2-لنقرأ الآيات من سورة النور :
قال تعالى: (ويقولون آمنا باللّه وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى اللّه ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم مُعْرِضُون. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مُذْعِنين. أفي قلوبهم مَرَضٌ أم ارتابوا أم يخافون أن يَحِيف اللّه عليهم ورسوله بل أولئك هم الظَالمون. إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى اللّه ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحــون). (النور : 47 – 51).

3- لنقرأ الآيات في سورة الأحزاب :
قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قـضى اللّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخِيَرةُ من أمرهم ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضل ضلالا مبينًا). (الأحزاب : 36).
وهذه الآيات المحكمات من كتاب اللّه تعالى غنية عن أي تعليق، فهي واضحة الدلالة على أن الإذعان لحكم اللّه ورسوله جزء لا يتجزأ من الإيمان، وأنه لا خيرة لمؤمن ولا مؤمنة أمام ما قضى اللّه ورسوله، وأن لا يتصور من مؤمن يدعى إلى حكم اللّه ورسوله إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا.

وقد أقسم اللّه على نفي الإيمان عن كل من لم يحكم رسول اللّه --، مع الرضا والقبول والتسليم كل التسليم.

4 – آيات محكمة صريحة:
إن آيات سورة المائدة ـ التي دمغت من لم يحكم بما أنزل اللّه بالكفر والظلم والفسوق ـ آيات محكمة صريحة الدلالة على موضوعها.
ولا بأس بأن نسوق هذه الفقرة التي اشتملت على تلك الآيات من كتاب اللّه ــ كاملة، ليتأملها كل من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.

يقول تعالى : (إنا أنزلنا التوراة فيها هُدًى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما اسـتحفظوا من كتاب اللّه وكانوا عليه شـهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون.. وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون. وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقًا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقًا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين.. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون). (المائدة : 44 – 47).

أقوال المفسرين في آيات الحكم بما أنزل الله:

للمفسرين من السلف في هذه الآيات أقوال:
-فمنهم من قال: هي كلها في أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
-ومنهم من قال: الآية الأولى ـ يقصد: (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون) ـ في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى.
-ومنهم من قال: نزلت في أهل الكتاب، وهي مراد بها جميع الناس مسلموهم وكفارهم:

-روى الطبري عن إبراهيم النخعي قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ومن رضي لهذه الأمة بها.
-وعن الحسن: نزلت في اليهود، وهي علينا واجبة.
-وسئل ابن مسعود عن الرشوة في الحكم فقال: ذاك الكفر، ثم تلا: (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون) ..
-وعن السدي أيضًا ما يدل على العموم.
عن ابن عباس أيضًا ما يفيد العموم، وذلك حين سئل عن كفر من لم يحكم بما أنزل اللّه، فقال: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر باللّه واليوم الآخر، وبكذا، وكذا.
-ومثله قول طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة.
-وقول عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وهو أيضًا مروي عن ابن عباس نفسه، رواه عنه سعيد بن منصور، وابن المنذر، -وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه البيهقي في سننه.
-ومثله عن: على بن الحسين، زين العابدين.
-وفي رواية أخرى عن ابن عباس فرق بين نوعين من الحكام، فقال: من جحد ما أنزل اللّه فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق.

وقفات مع المفسرين :في آيات سورة المائدة
أولا- الآيات التي جاءت بصيغة عامة:
نقف هنا عدة وقفات لتوضيح موقف المفسرين:
الأولى: أن الذي لاشك فيه أن الآيات نزلت في أهل التوراة والإنجيل كما تدل على ذلك أسباب النزول، والسياق نفسه.
ولكن خواتيم الآيات (ومن لم يحكم.. .) جاءت بصيغة عامة كما يظهر ذلك بأدنى تأمل، فما الذي جعل بعض المفسرين يقصر أحكامها ومضمونها على غير المسلمين من أهل الكتاب وأهل الشرك؟

إن السبب يكمن في خوفهم من مسارعة بعض الناس إلى اتهام الأمراء والحكام بالكفر الأكبر بكل جور يحدث، ولو كان سببه الهوى أو المحاباة، ونحو ذلك، مما لا يكاد يسلم منه أمير أو حاكم، إلا من عصم ربك، وقليل ما هم.
وهذا ما جعل ابن عباس وأصحابه: عطاء وطاووسًا وابن جبير وغيرهم، يؤكدون أنه ليس بكفر ينقل عن الملة، كمن كفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويقولون: بل كفر دون كفر..إلخ، وما جعل ابن عباس يفرق بين الجاحد والمقر.
ومن قرأ المحاورة بين أبي مجلز التابعي ومن سأله من بني سدوس من الأباضية عن أمراء زمنهـم، وكيـف كانوا يريــدونه أن يفتي بكفرهــم بناء على الآية، يتبين له صـدق ما أقول.

-فقد روى الطبري عن عمران بن حدير قال: أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيت قول اللّه تعالى : (ومن لم يحكـم بما أنزل اللـه فأولئك هم الكافرون)، أحق هـو؟ قال : نعم ! قالوا : (ومن لم يحكم بما أنزل اللـه فأولئك هم الظالمـون)، أحق هو ؟ قال : نعم ! قالوا : (ومن لم يحكم بما أنزل اللـه فأولئك هم الفاسـقون)، أحق هو؟ قال: نعم! قال فقالوا: يا أبا مجلز، فيحكم هؤلاء بما أنزل اللّه؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون، فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبا! فقالوا: لا واللّه ولكنك تَفْرَق (أي تخاف) ! قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرجون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك، أو نحوا من هذا.
-وفي رواية أخرى، قال أبو مجلز: إنهم يعملون بما يعملون ـ يعني الأمراء ــ ويعلمون أنه ذنب! قال: وإنما أنزلت هذه الآية في اليهود والنصارى.

ثانيا: ضرورة التفريق بين نوعين من الحكام :
أن من الواجب الحتم أن نفرق ـ كما فرق الحبر ابن عباس ـ بين نوعين من الحكام:

-الحاكم الذي يلتزم بالإسلام منهاجًا ودستورًا ونظامًا للحياة، يحكم به ويرجــع إليه، ثم ينحرف أو يجور في بعض الأمور الجزئية، بحكم الضعف أو اتباع الهوى.

-والحاكم الذي يرفض تحكيم ما أنزل اللّه، يقدم عليه أحكام البشر وقوانينهم. فهذا كأنما يتهم اللّه تعالى بأنه يجهل مصالح عباده، أو يعلمها ويشرع لهم ما يضادها مع أنه تعالى يقول : (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير). (الملك :14).

وهذا ما جعل العلامة محمود محمد شاكر يعقب في تحقيقه لتفسير الطبري على الأثر أو الأثرين المرويين عن أبي مجلز بقوله: من البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الأباضية، إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء؛ لأنهم في معسكر السلطان، ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا بعض ما نهاهم اللّه عن ارتكابه.

ولذلك قال لهم في الخبر الأول فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا.

وقال لهم في الخبر الثاني: إنهم يعملون بما يعملون ويعلمون أنه ذنب.

وإذن، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير حكم اللّه في كتابه وعلى لسان نبيه --، فهذا الفعل إعراض عن حكم اللّه، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم اللّه سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه.

والبعض يقول الذي نحن فيه اليوم، هو هجر لأحكام اللّه عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه -- وتعطيل لكل ما في شريعة اللّه، والاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع، على أحكام اللّه المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها، فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز، والنفر من الإباضية من بني عمرو بن سدوس!!
ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكمًا وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها، هذه واحدة، وأخرى أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم اللّه فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة، وإما أن يكون حكم بها وهو معصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة، وإما أن يكون حكم به متأولاً حكمًا خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب، وسنة رسول اللّه --.

وأما أن يكون كان في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر، جاحدًا لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثرًا لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام، فذلك لم يكن قط، فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه. فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها، وصرفها إلى غير معناها رغبة في نصرة سلطان، أو احتيالاً على تسويغ الحكم بغير ما أنزل اللّه وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام اللّه: أن يستتاب، فإن أصر وكابر وجحد حكم اللّه، ورضي بتبديل الأحكام ـ فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين. (من تعليق الأستاذ محمود شاكر على تفسير الطبري) .ا.هـ.

ثالثًا :العبرة بعموم اللفظ :
أن علماء الأصول بحثوا في قضية الأسباب الخاصة لنزول القرآن، أو ورود الحديث، والألفاظ العامة التي وردت بناء عليها، وحققوا : أن العبرة بعموم الألفـاظ لا بخصوص الأسباب. ولولا ذلك لعطلت أحكام كثيرة نزلت بسبب حوادث خاصة في عهد النبوة “وهذا إذا صحت أسباب النزول، وكثير منها غير صحيح”.
وفي قضيتنا هذه خاصة “من لم يحكم بما أنزل اللّه” لا يمكن القول بأنها تخص اليهود والنصارى في كتبهم التي نسخت وانتهى أمدها، ولا تشملنا نحن المسلمين في كتابنا الخالد الباقي إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، وكيف يطلب اللّه من أهل التوراة أن يحكموا بما أنزل اللّه فيها، ويأمر أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل اللّه فيه، ولا يأمر أهل القرآن أن يحكموا بما أنزل اللّه فيه؟!

وفي بحث نُشر عن ” دار الصحوة ” بالقاهرة تحت عنوان : ” الفتوى بين الانضباط والتسيب “.ومزالق المتصدين للفتوى في عصرنا، جاء فيه:
ومن أمثلة سوء التأويل ما قاله بعضهم حول الآيات التي وردت في سورة المائدة، في شأن من لم يحكم بما أنزل اللّه، وهو قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون)، وقوله تعالى:(ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون)، وقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاســقون).
قال هذا القائل: إن هذه الآيات لم تنزل فينا ـ معشر المسلمين ـ وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة.
ومقتضى هذا ـ في زعمه ـ أن من لم يحكم بما أنزل اللّه من اليهود والنصارى فهو كافر أو ظالم أو فاسق، وأما من لم يحكم بما أنزل اللّه من المسلمين فليس كافرًا ولا ظالمًا ولا فاسقًا.
وهذا واللّه مما لا ينقضي منه العجب.
صحيح أن سياق الآيات في أهل الكتاب؛ لأنها جاءت بعد الحديث عن التوراة والإنجيل ولكن يلاحظ أنها جاءت بألفاظ عامة، تشمل كل من اتصف بها من كتابيٍّ أو مسلم.

ولهذا حقق الأصوليون من علماء المسلمين: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ونظير ذلك أن تقول: فلان مرض؛ لأنه أساء التغذية والتهوية، ومن أساء التغذية والتهوية أصابته الأمراض.
فالقضية الأولى خاصة بفلان هذا، ولكن التعقيب الأخير جاء بلفظ عام يشمل كل من أساء في تغذية بدنه، أو تهوية مسكنه، وحكم عليه بأن تصيبه الأمراض.
أو تقول: المدرسة الفلانية ساءت نتيجتها آخر العام لسوء إدارتها، ومن ساءت إدارته ساءت نتيجته.
فالكلام الأول خاص بمدرسة معينة، والكلام الأخير عام بألفاظه لكل من أساء الإدارة. بحيث يشمل هذه المدرسة وكل المدارس، وغير المدارس أيضًا على ما يقتضيه عموم اللفظ.

ومن ثم نقول: إن نزول الآيات في شأن أهل الكتاب لا يجعلها مقصورة عليهم؛ لأنها جاءت بألفاظ عامة تشملهم وتشمل كل من شاركهم في الوصف المذكور.
ولا يقبل عقل عاقل أن تكون التعقيبات المذكورة خاصة باليهود أو بالنصارى وحدهم، بمعنى أن الحكم بغير ما أنزل اللّه من اليهودي والنصراني كفر وظلم وفسوق ومن المسلم لا يعد كذلك.
هذا الكلام مرفوض لعدة أوجه :
1ـ هذا مناف للعدل الإلهي؛ لأن معناه أن اللّه يكيل بكيلين، كيل لأهل الكتاب، وكيل للمسلمين، مع أن اللّه لا يعامل عباده بالعناوين والأسماء، بل بالإيمان والأعمال. ولهذا قال تعالى في سورة النساء: (ليس بأمانيكــم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يُجـز به). (النساء : 123).
وقد روى الطبري في تفسيره (12030) بسنده عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة عن هؤلاء الآيات: (ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون)، (فأولئك هم الظالمون)، (فأولئك هم الفاسقون)، قال : فقيل : ذلك في بني إسرائيل؟ قال: نِعْمَ الإخْوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لهم كل مُرة، ولكم كل حلوة! كلا واللّه لتسلكن طريقهم قِدَى الشراك. (وقوله : (قدى) بكسر القاف وفتح الدال، يقال : “هو مني قيد رمح ” بكسر القاف و ” قاد رمح ” و” قدى رمح ” بمعنى واحد : أي : قدر رمح قال هدبة بن الخشرم :
وإني إذا ما الموت لم يك دونه قدى الشبر، أحمى الأنف أن أتأخرا
و” الشراك ” : سير النعل، ويضرب به المثل في الصغر والقصر، يريده تشبهونهم : لا يكاد أمركم يختلف إلا قدر كذا وكذا).

وخبر حذيفة، رواه الحاكم في المستدرك(2: 312ـ313) من طريق جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، قال: كنا عند حذيفـة، فذكـروا : (ومن لم يحكـم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فقال رجل من القوم: إن هذه في بني إسرائيل! فقال حذيفة: نعم الإخوة بنو إسرائيل إن كان لكم الحلو، ولهم المر! كلا والذي نفسي بيده، حتى تَحْذُوا السُّنَّة بالسنة والقَذَّة بالقذة وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، “السنة” :الطريقة المتبعة، و”القذة “: ريش السهم، يقدر الريش بعضه على بعض ليخرج متساويًا.

2 ـ أن هذا القول يعطي أن ما أنزل اللّه على المسلمين دون ما أنزل على أهل الكتاب؛ لأن ترك الحكم بما أنزل على أهل الكتاب اعتبره كفرًا وظلمًا وفسوقًا، أما ترك الحكم بما أنزل اللّه على المسلمين فليس كذلك.
هذا مع أن الذي لا ريب فيه أن اللّه أنزل على المسلمين خير كتبه، فهو المصدق لها، المهيمن عليها، وهو من بينها الكتاب المعجز المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
يقول اللّه تعالى لرسوله: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مُصَدّقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه فاحكم بينهم بما أنزل اللّه ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق). (المائدة : 48).

أن العبرة من ذكر قصص أهل الكتاب في القرآن، وبيان أحوالهم والحكم لهم أو عليهم، أن يتعظ بها المسلمون، فيتأسوا بما عندهم من خير، ويحذروا مما قارفوه من شر… وإلا كان ذكر هذه الأمور عبثًا.
والواقع أن علماء المسلمين كافة يستشهدون بالآيات الخاصة التي جاءت في أهل الكتاب، إيمانًا منهم بأنها سيقت للاعتبار والذكرى.
ولهذا لم يتوقف أحد عن خطاب علماء المسلمين بما خوطب به بنو إسرائيل في القرآن في قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتَنْسَــوْن أنفسـكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) (البقرة : 44) .ولا عن خطاب المسلمين عامة بما خوطب به بنو إسرائيل: قال تعالى: (أفتؤمنون ببعـض الكتاب وتكفرون ببعض).
وإذا كان هذا في الخطاب الخاص، فكيف باللفظ العام، كما في الآيات التي معنا؟ وهي آيات ثلاث تتحدى كل متأول، وتدمغ كل منحرف عن حكم اللّه بأوصاف ثلاثة: بالكفر والظلم والفسوق.
ولو كان رمحًا واحدًا لاتقيته ولكنه رمح وثان وثالث!

الإجماع على وجوب الحكم بما أنزل الله:

إن الذين قالوا: إن الآيات نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهم أهل التوراة، وأهل الإنجيل، لا يعنون أن الحكم بما أنزل اللّه في القرآن ليس بواجب على المسلمين. فهذا غير متصور أن يصدر من مسلم عادي، ناهيك بفقيه أو مفسر لكتاب اللّه، فلماذا أنزل اللّه كتابه إذن، إن لم يكن الحكم بما تضمنه من شرائع وأحكام واجبًا ملزما؟ كل ما في الأمر أن بعضهم أراد أن يفر من قضية التكفير، فقال ما قال. ولكن لم يخطر ببال أحد منهم أن الحكم بما أنزل اللّه غير لازم.

ومن هنا قال من قال منهم: نزلت في أهل الكتاب، وهي علينا واجبة.
ومن الأدلة على ذلك أن الإمام أبا جعفر الطبري، اختار القول بأنها نزلت في أهل الكتاب، ولكنه أوجب الحكم بما أنزل اللّه في النهاية.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب؛ لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات في سياق الخبر عنهم، فكونها خبرًا عنهم أولى.

فإن قال قائل: فإن اللّه -تعالى ذكره- قد عم بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل اللّه، فكيف جعلته خاصا؟
قيل: إن اللّه تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم اللّه الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم، على سبيل ما تركوه كافرون.

وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به، هو باللّه كافر، كما قال ابن عباس؛ لأنه بجحوده حكم اللّه بعد علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي.ا هـ.

وبهذا القول انتهى إلى ما انتهى إليه غيره من القائلين بالعموم، المفرقين بين أنواع الحاكمين ومواقفهم. وهذا ما يقول به كل عالم محقق، فلا يطلقون الحكم بالتكفير على كل جائر، بل يفصلون.

رأي السيد رشــيد رضـا:
يقول العلامة رشيد رضا في تفسيره تعقيبًا على الآيات في سورة المائدة:
الكفر والظلم والفسق كلمات تتوارد في القرآن على حقيقة واحدة وترد بمعاني مختلفة كما بيناه في تفسير: (والكافرون هم الظالمون)من سورة البقرة. وقد اصطلح علماء الأصول والفروع على التعبير بلفظ الكفر عن الخروج من الملة، وما ينافي دين اللّه الحق، دون لفظي الظلم والفسق. ولا يسع أحدًا منهم إنكار إطلاق القرآن لفظ الكفر على ما ليس كفرًا في عرفهم، ولكنهم يقولون: “كفر دون كفر” ولا إطلاقه لفظي الظلم والفسق على ما هو كفر في عرفهم، وما كل ظلم أو فسق يعد كفرًا عندهم، بل لا يطلقون لفظ الكفر على شيء مما يسمونه ظلمًا أو فسقًا: لأجل هذا كان الحكم القاطع بالكفر على من لم يحكم بما أنزل اللّه محلا للبحث والتأويل عند من يوفق بين عرفه ونصوص القرآن.

وإذا رجعنا إلى المأثور في تفسير الآيات نراهم نقلوا عن ابن عباس رضي اللّه عنه أقوالا منها قوله: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. ومنها: أن الآيات الثلاث في اليهود خاصة ليس في أهل الإسلام منها شيء. وروي عن الشعبي أن الأولى والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى (المنقول عن الشعبي كما عند الطبري : أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، وهو ما أختاره ابن العربي كما ” في أحكام القرآن ” له، ونقله القرطبي).وهذا هو الظاهر، ولكنه لا ينفي أن ينال هذا الوعيد كل من كان منا مثلهم، وأعرض عن كتابه إعراضهم عن كتبهم، والقرآن عبرة يعبر به العقل من فهم الشيء إلى مثله. واستدل بما ذكرناه من قبل عن حذيفة وابن عباس.

والأوليان منها في سياق الكلام على اليهود، والثالثة في سياق الكلام على النصارى لا يجوز فيها غير ذلك. وعبارتها عامة لا دليل فيها على الخصوصية، ولا مانع يمنع من إرادة الكفر الأكبر في الأولى ــ وكذا الأخريان ــ إذا كان الإعراض عن الحكم بما أنزل اللّه ناشئًا عن استقباحه وعدم الإذعان له وتفضيل غيره عليه، وهذا هو المتبادر من السياق في الأولى بمعرفة سبب النزول كما رأينا في تصويرنا للمعنى.

وإذا تأملنا الآيات أدنى تأمل تظهر لنا نكتة التعبير بوصف الكفر في الأولى، وبوصف الظلم في الثانية، وبوصف الفسوق في الثالثة، فالألفاظ وردت بمعانيها في أصل اللغة موافقة لاصطلاح العلماء. ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور، والتزام الأنبياء وحكماء العلماء العمل والحكم به والوصية بحفظه. وختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له، رغبة عن هدايته ونوره، مؤثرًا لغيره عليه، فهو الكافر به. وهذا واضح لا يدخل فيه من لم يتفق له الحكم به أو من ترك الحكم به عن جهالة ثم تاب إلى اللّه، وهذا هو العاصي بترك الحكم الذي يتحاشى أهل السنة القول بتكفيره، والسياق يدل على ما ذكرنا من التعليل.

وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإيمان وترجمان الدين، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء بالعدل والمساواة: فمن لم يحكم بذلك فهو الظالم في حكمه كما هو ظاهر، وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته لا بحسب ظواهر الألفاظ فقط، فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا بها فهم الفاسقون بالمعصية والخروج من محيط تأديب الشريعة.

وقد استحدث كثير من المسلمين من الشرائع والأحكام نحو ما استحدث الذين من قبلهم، وتركوا بالحكم بها بعض ما أنزل اللّه عليهم، فالذين يتركون ما أنزل اللّه في كتابه من الأحكام من غير تأويل يعتقدون صحته فإنه يصدق عليهم ما قاله اللّه تعالى في الآيات الثلاث أو في بعضها، كل بحسب حاله، فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا غير مذعن له، لاستقباحه إياه وتفضيل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعًا. ومن لم يحكم به لعلة أخرى فهو ظالم إن كان في ذلك إضاعة الحق أو ترك العدل والمساواة فيه، وإلا فهو فاسق فقط، إذ لفظ الفسق أعم هذه الألفاظ، فكل كافر وكل ظالم فاسق، ولا عكس.وحكم اللّه العام المطلق الشامل لما ورد فيه النص ولغيره مما يعلم بالاجتهاد والاستدلال هو العدل، فحيثما وجد العدل فهناك حكم اللّه ــ كما قال أحد الأعلام.

ولكن متى وجد النص القطعي الثبوت والدلالة لا يجوز العدول عنه إلى غيره، إلا إذا عارضه نص آخر اقتضى ترجيحه عليه، كنص رفع الحرج في باب الضرورات.ا هـ.
فهذا هو موقف الشيخ رشيد رحمه اللّه من عدم الحكم بما أنزل اللّه، واضحًا بينًا مفصلاً، لمن أراد أن يعرفه، ولا يجوز أخذ بعض كلامه مفصولا عن بعض، واتهامه بالتساهل والمغالطة والانهزام، فهذا ظلم لهذا المصلح العظيم.

مناقشة حول رأي ابن عباس:
وقد زعم بعضهم أن مذهب ابن عباس رضي اللّه عنهما، هو قصر الآيات على سبب نزولها وجادلوا في ذلك الكاتب الإسلامي المعروف الأستاذ فهمي هويدي، ولا أدري من أين نسـبوا هذا إلى ابن عباس؟ وأقوال ابن عباس في تفسـير القـرآن المروية عنه تنطـق بأنه لا يرى هذا الرأي إلا في آيات محدودة يدل سياقها على التخصيص لا على التعميم.
أما فيما عدا ذلك فهو يأخذ بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
وأظهر دليل على ذلك هو رأيه في هذه الآيات نفسها، من سورة المائدة، فقد روى الطبري وغيره ـ كما ذكرنا من قبل ـ أنه قال في آية : (هم الكافرون)هو به كفر وليس كمن كفر باللّه، وملائكته وكتبه ورسله.
كما روي عنه أنه فرق بين الجاحد والمقر، فالأول كافر، والثاني ظالم فاسق.
وروى عنه ابن المنذر: أنه قال ردًا على من جعل الآيات خاصة بأهل الكتاب: “نعم القوم أنتم، إن كان ما كان من حلو فهو لكم، وما كان من مر فهو لأهل الكتاب” كأنه يرى أن ذلك في المسلمين. (نقله السيوطي في : ” الدر المنثور “).

دعوى أن الحكم مقصور على الفصل بين المتنازعين :
أما من قال: إن لفظ الحكم جاء في القرآن بمعنى القضاء والفصل بين الناس فيما يتنازعون فيه من قضايا ولا عـلاقة له بالجانب الإداري أو التشريعي، بدليل قوله: (وأن احكم بينهم) ولم يقل: ” وأن احكمهم” فهذا الادعاء غير مسلم على إطلاقه.
ومن قرأ آيات المائدة كلها وجد فيها ما يشمل القضاء والتشريع والإدارة والسياسة ونحوها.
ففي مقام الحديث عن التوراة يقول:
(إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب اللّه وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون). (المائدة : 44).
فالحكم هنا أعم من الفصل بين المتخاصمين.
وفي مقام الحديث عن الإنجيل يقول: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون). (المائدة : 47).
ومن المعروف أن الإنجيل ليس كتاب أحكام يرجع إليه القضاة في مسائل النزاع، بل هو كتاب وصايا ومواعظ وآداب وسلوك، فالحكم بما أنزل اللّه فيه لا يقف عند حدود ما ذكره صاحب الادعاء.

وهب أن هذا الزعم كان صحيحًا، وكان الحكم بمعنى القضاء والفصل في الخصومات، فهل يعفي هذا السلطات التشريعية والتنفيذية من مسئولية الحكم بما أنزل اللّه؟ فالمسئولية مشتركة، كما قرر ذلك المحققون من علماء العصر.
يقول العلامة رشيد رضا: يستلزم الحكم بتكفير القاضي الحاكم بالقانون تكفير الأمراء والسلاطين الواضعين للقوانين، فإنهم وإن لم يكونوا ألفوها بمعارفهم فإنها وضعت بإذنهم وهم الذين يولون الحكام ليحكموا بها.
ومثل ذلك قاله الشيخ شلتوت في “فتاويه”.

كلمة شريعة في القرآن ودلالتها:

من غرائب ما قاله بعض الناس في عصرنا ـ وكتبوه في كتب، ونشروه في صحف!! قولهم: إن كلمة ” شريعة ” لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة في سـورة الجاثيـة: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها). (الجاثية : 18).
واستدل بهذا على أن القرآن لم يعر قضية الشريعة أهمية واعتبارًا، ولو صح هذا الاتجاه في الاستدلال لقلنا: إن الإسلام لا يهتـم بقضية الأخلاق ؛ لأنه لم يذكـر الأخـلاق إلا في الثناء على الرسول -- بقوله:(وإنك لعلى خلق عظيم). (القلم : 4).
ولقلنا: إنه لم يهتم بالفضائل؛ لأن كلمة فضيلة لم تذكر فيه.

بل لو صح هذا لكان لنا أن نقول: إن القرآن لا يهتم بالعقيدة؛ لأن كلمة “عقيدة ” لم ترد فيه مُعَرّفة ولا مُنَكّرة. وكذلك لم ترد في السنة المشرفة.
ولو تعاملنا مع المفاهيم والقيم والتعاليم بهذا الفهم القاصر، والمنهج اللفظي الأعرج؛ لاختلطت علينا الأمور، والتبس الحق بالباطل، وتنكبنا سواء السبيل.
إنما الواجب أن نبحث عن مضمون الموضوع في القرآن والسنة، بغض النظر عن الألفاظ والمصطلحات التي استحدثها الناس بعد عصر نزول القرآن.
مشروعية الوصف بما وصف القرآن:
أعتقد أنه لا يمنع عالم من العلماء من وصف من لم يحكم بما أنزل اللّه بالكفر؛ لأنه وصفه بما وصفه اللّه تعالى به في كتابه المبين، كما وصفه بالظلم والفسق. فمن وقف عند نص القرآن ولفظه لا يتّهم بالخطأ أو الزيغ، كل ما عليه أن يفسر الكفر بما فسر به ابن عباس وغيره. بأنه ليس الكفر المخرج من الملة، وأنه كفر دون كفر، وأن يفرق بين الجاحد والمقر، كما فرق ترجمان القرآن ومحققو علماء الأمة.

أمران مهمان :
على أن هنا أمرين مهمين يجب أن ننبه عليهما الحاكمين والمحكومين معًا، وهما:
أن اتصاف الإنسان بالظلم والفسوق ليس شيئًا هينا، بحيث يستخف به ويستهان بأمره، فليس الكفر المخرج من الملة هو المخوف وحده، بل الظلم والفسق من أشد ما يحذره المسلم الحريص على دينه، الخائف على نفسه، الراجي لقاء ربه، قال تعالى: (ألا لعنة اللّه على الظالمين) (هود : 18)، (واللّه لا يحب الظالمين) (آل عمران : 57)، (إن اللّه لا يهدي القوم الظالمين) (المائدة : 51)، (ومن يظلم منكم نذقه عذابًا كبيرًا) (الفرقان : 19)، (إنه لا يفلح الظالمون) (يوسف : 23)، (وسيـعلم الذين ظلمـوا أي منقلب ينقلبـون) (الشعراء : 227)، (إن اللّه لا يهـدي القـوم الفاسقين) (المنافقون : 6).(بئس الاسم الفُسُوق بعد الإيمان) (الحجرات : 11).(وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون). (الأعراف : 165).

أن الحكم بغير ما أنزل اللّه ـ وإن لم يكن كفرًا مخرجًا من الملة، لعدم الجحود والإنكار لشرع اللّه ـ هو بالقطع حكم مخالف للإسلام، وحسب صاحبه أنه رضي لنفسه أن يكون ظالمًا وفاسقًا. وهو ليس ظلم ساعة، ولا فسق يوم، بل هو ظلم مستمر، وفسق دائم بدوام الحكم بغير ما أنزل اللّه. ولهذا كان بقاء هذا الحكم منكرًا بيقين وبالإجماع، وكان السكوت عليه منكرًا بيقين وبالإجماع، وكانت معارضته ومجاهدته واجبة بيقين، وبالإجماع، فيتعين على أهل الحل والعقد تغييره بالوسائل الدستورية.

روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن مسعود، رضي اللّه عنه أن رسول اللّه -- قال: “ما من نبي بعثه اللّه في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يأمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.