التبني الذي هو نسب الولد إلى غير أبيه ، وما يترتب على ذلك من حقوق حرمه الإسلام ، وشدد النكير عليه ، وقاد حملة ضده حتى محاه ، أما أن يأخذ رجل ولدا يرعاه دون أن ينسبه إليه، فهذا أمر يؤجر المرء عليه ، ويثاب بفعله عند الله .
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :
إذا كان الأب لا يجوز له أن ينكر نسب من ولد في فراشه، فإنه لا يحل له كذلك أن يتبنى من ليس بابن له من صلبه. وقد كان العرب في الجاهلية كغيرهم من الأمم في التاريخ يلحقون بانسابهم وأسرهم من شاؤوا عن طريق التبني، فللرجل أن يضيف إلى بنوته من يختاره من الفتيان، ويعلن ذلك فيصبح واحدا من أبنائه وأسرته له ما لهم وعليه ما عليهم ويحمل بذلك اسم الأسرة ويكون له حقوقها. ولم يكن يمنع هذا التبني أن يكون للفتى المتبنى أب معلوم ونسب معروف.
جاء الإسلام فوجد هذا التبني منتشرا في المجتمع العربي، حتى إن النبي ﷺ نفسه كان قد تبنى زيد بن حارثة في الجاهلية، وهو فتى عربي سبي صغيرا في غارة من غارات العرب في الجاهلية، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، ثم وهبته للنبي ﷺ بعد أن تزوجته ولما عرف أبوه وعمه مكانه، وطلباه من النبي ﷺ، خيره النبي ﷺ، فما كان منه إلا أن اختار رسول الله ﷺ على أبيه وعمه، فأعتقه النبي ﷺ وتبناه وأشهد على ذلك القوم. وعرف منذ ذلك الحين باسم (زيد بن محمد) وكان أول من آمن به من الموالي.
ما موقف الإسلام من التبني:
لقد رأى بحق أن التبني تزوير على الطبيعة والواقع، تزوير يجعل شخصا غريبا عن أسرة فردا منها، يخلو بنسائها على أنهن محارمه وهن عنه غريبات فلا زوجة الرجل المتبني أمه ولا أخته، ولا عمته.. إنما هو أجنبي عن الجميع.
ويرث هذا الابن المدعى من الرجل أو المرأة على أنه ابنهما، ويحجب ذوي القربى الأصلاء المستحقين. وما أكثر ما يحقد الأقارب الحقيقيون على هذا الدخيل الذي عدا عليهم فاغتصب حقوقهم، وحال بينهم وبين ما كانوا يرجون من ميراث. وما أكثر ما يثور هذا الحقد، ويؤرث نار الفتن، ويقطع الأواصر والأرحام!!
لهذا أبطل القرآن هذا النظام الجاهلي، وحرمه تحريما باتا، وألغى آثاره كلها، قال تعالى: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) سورة الأحزاب:4،5.
ولنتأمل هذه الكلمة القرآنية الناصعة (وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم) أي أن التبني إنما هو كلمة فارغة ليس وراءها حقيقة خارجية.
إن الكلام باللسان لا يبدل الحقائق، ولا يغير الواقع، ولا يجعل الغريب قريبا، ولا الأجنبي أصيلا، ولا الدعي ولدا، الكلام بالفم لا يجري في عروق المتبنى، دم المتبني ولا يخلق في صدر الرجل حنان الأبوة، ولا في قلب الغلام عواطف البنوة، ولا يورثه خصائص الفضيلة، ولا ملامح الأسرة الجسمية والعقلية والنفسية.
وقد ألغى الإسلام كل الآثار التي كانت تترتب على هذا النظام من إرث وتحريم للزواج من حليلة المتبنى.
ففي الإرث لم يجعل القرآن لغير صلة الدم والزوجية والقرابة الحقيقية قيمة وسببا في الميراث: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) آخر سورة الأنفال.
وفي الزواج أعلن القرآن أن من المحرمات حلائل الأبناء الحقيقيين لا الأدعياء (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) سورة النساء:24. فيباح للرجل أن يتزوج حليلة متبناه لأنها امرأة إنسان غريب عنه في الواقع، فلا بأس أن يتزوجها إذا طلقها الآخر.
إبطال التبني بالتشريع العملي بعد التشريع القولي :
ولم يكن هذا الأمر سهلا على الناس، فقد كان التبني نظاما اجتماعيا عميق الجذور في حياة العرب. فشاءت حكمة الله ألا يكتفي في هدمه وإهدار آثاره بالقول وحده بل بالقول والعمل جميعا.
واختارت الحكمة الإلهية لهذه المهمة رسول الله ﷺ نفسه، ليزيل كل شك، ويدفع كل حرج عن المؤمنين في إباحة زواج مطلقات أدعيائهم، وأن يوقنوا أن الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله.
وكان زيد بن حارثة الذي عرفنا أنه كان يقال له زيد بن محمد قد تزوج زينب بنت جحش، ابنة عمة النبي ﷺ. وقد اضطربت بينهما العلائق وكثرت شكوى زيد من زوجته إلى النبي ﷺ، والنبي يعلم -بما نفث الله في روعه- أن زيدا مطلقها، وأنه متزوجها بعده ولكن الضعف البشري غلب عليه في بعض اللحظات فخشي مواجهة الناس فكان يقول لزيد كلما شكا له: أمسك عليك زوجك واتق الله.
وهنا نزل القرآن يعاتب النبي ﷺ، وفي الوقت نفسه يشد أزره في مواجهة المجتمع، بتحطيم بقايا هذا النظام القديم والتقليد الراسخ، الذي يحرم على الرجل أن يتزوج امرأة متبناه الغريب عنه. قال تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه (بالإيمان) وأنعمت عليه (بالعتق، وهو زيد): أمسك عليك زوجك واتق الله، وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا) سورة الأحزاب:37.
ثم مضى القرآن يحامي عن رسول الله ﷺ في هذا العمل ويؤكد إباحته ويرفع الحرج عنه: (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا. الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا. ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما) الأحزاب:38-40.
كيف يكون التبني حلالا:
التبني الممنوع: هو التبني الذي أبطله الإسلام؛ وهو الذي يضم فيه الرجل طفلا إلى نفسه، يعلم أنه ولد غيره، ومع هذا يلحقه بنسبه وأسرته، ويثبت له كل أحكام البنوة وآثارها من إباحة اختلاط وحرمة زواج واستحقاق ميراث.
التبني الجائز: هنالك نوع يظنه الناس تبنيا وليس هو بالتبني الذي حرمه الإسلام. وذلك أن يضم الرجل إليه طفلا يتيما أو لقيطا، ويجعله كابنه في الحنو عليه والعناية به والتربية له، فيحضنه ويطعمه ويكسوه ويعلمه ويعامله كأنه ابنه من صلبه، ومع هذا لم ينسبه لنفسه ولم يثبت له أحكام البنوة المذكورة. فهذا أمر محمود في دين الله، يستحق صاحبه عليه المثوبة في الجنة وقد قال عليه السلام: “أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا. وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما” واللقيط في معنى اليتيم. وهو بعد ذلك أولى من يطلق عليه (ابن السبيل) الذي أمر برعايته الإسلام.
هل تجوز الهبة للمتبنى:
وإذا لم يكن للرجل ذرية وأراد أن ينفح هذا الولد بشيء من ماله، فله أن يهبه ما شاء في حياته، وأن يوصي له في حدود الثلث من التركة قبل وفاته.