البكاء في حد ذاته مباح شرعا ، بل هو رحمة، ولا يعذب به الميت، وأما ما يصاحبه من ندب أو نياحة أو أي مخالفة كشق الثياب مثلا فهو الممنوع، ويعذب به الميت لو كان له سبب فيه كأن وصى به أو أقره في حياته ولم ينكره .
يقول الشيخ عطية صقر ـ رحمه الله ـ :
لقد أمرنا الله بالصبر والرِّضا بقضائه عند وُقُوع أيِّ مكروه، كما قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (سورة البقرة:155-157)، وحَرَّم كل قول أو فعل يتنافى مع الإيمان بالله فيما قضاه وقدَّره، فقد صح فيما رواه البخاري ومسلم: ” ليس منَّا من لَطَم الخُدود وشقَّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية”، والمعنى أنه ليس بمؤمن مَن فَعَل ذلك معتقدًا أنه حلال. وأما من فعله على أنه حرام فهو مؤمن عاص ناقص الإيمان.
وجاء في تأثُّر الميت بمظاهر الحُزن عليه التي لا يُقرِّها الدين قوله ـ ﷺ ـ: “ما مِن ميِّت يَمُوت فيَقُوم باكِيهم فيقول: واجَبَلاه واسيِّداهْ أو نَحْو ذلك إلا وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِهِ: أهكذا كنت”؟ رواه ابن ماجه والتِّرمذي وقال: حديث حسن، واللهْز هو الدفْع في الصدر بجميع اليد. وقوله ” إن الميت يعذَّب ببكاء أهله عليه” وفي رواية “يعذَّب بما نِيحَ عليه” يقول النووى في شرح صحيح مسلم” ج6 ص228″ : اختلف العلماء في تأويل الأحاديث التي وردت بتعذيب الميِّت بما نيح عليه، فحمَلَها الجمهور على من وصَّى بأن يُبكَى عليه ويُناح بعد موته فنفِّذت وصيَّته، فهذا يُعَذب ببكاء أهله عليه ونوحهم؛ لأنه بسببه ومنسوب إليه. فأما مَن بَكَى عليه أهله وناحوا من غير وصية منه فلا يعذَّب، لقوله الله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (سورة فاطر:18)، وكان من عادة العرب الوصية بذلك، ومنه قول طرفة بن العبد:
إِذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ … وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ
وقيل: إن الميت يعذَّب، أي يتألَّم بسبب بكائهم عليه وكان يُحب لهم ألا يبكوا، وإليه ذهب محمد بن جرير الطبري، وقال عِيَاض: هو أولى الأقوال، واحتجوا بحديث ” إنَّ أحدكم إذا بكى استَعبر له صُوَيحبُه، فيا عباد الله لا تعذِّبوا إخوانكم” والمراد بذلك كله مجرد البكاء ولكن النياحة.
وقال النووي في كتابه ” الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار” ص148:
رَوينا في صحيحيهما ـ أي البخاري ومسلم ـ عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ بَرِيء من الصَّالقة والحالِقَة والشاقة. قلت: الصَّالقة الَّتي ترفع صوتها بالنِّياحة، والحالِقة التي تَحْلق شعرها عند المصيبة، والشاقَّة التي تَشقُّ ثيابها عند المصيبة، وكل هذا حرام باتفاق العلماء. وكذلك يَحْرُمُ نشر الشَّعر ولطم الخدود وخمْش الوجه والدُّعاء بالويل، ورَوينا في صحيحيْهما عن أم عطية ـ رضي الله عنها ـ قالت: أخَذ علينا رسول الله ـ ﷺ ـ في البَيعة ألا ننوح، ورُوِّينا في صحيح مسلم قوله ـ ﷺ ـ: “اثنتان في الناس هما بهم كفْر، الطَّعن في النسب والنياحة على الميت”، وفي سنن أبى داود عن أبى سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: لعن رسول الله ـ ﷺ ـ النَّائحة والمستَمِعة.
والنِّياحة هي رفع الصوت بالندب، والنَّدب تعديد النادبة بصوتها محاسن الميت، وقيل: هو البكاء عليه مع تعديد محاسنه. ثم قال النووي: قال أصحابنا: ويَحْرُم رفع الصوت بإفراط في البكاء، وأما البكاء على الميت من غير ندب ولا نياحة فليس بحرام. فقد رَوَيْنا في صحيحَي البخاري ومسلم عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ ﷺ ـ عَادَ سعد بن عُبادة ومعه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فبَكى رسول الله ـ ﷺ ـ، فلما رأى القوم بكاءه بَكَوْا، فقال: ” ألا تَسمعون أنَّ الله لا يعذِّب بدمع العين ولا بحُزن القلب، ولكن يعذِّب بهذا أو يرحم” وأشار إلى لسانه. ورَوَيْنا في صحيحَيْهما عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ ﷺ ـ رفع إليه ابن ابنته وهو في الموت ففاضت عينا رسول الله ـ ﷺ ـ فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: “هذه رحمة جعلها الله تَعالى في قلوب عباده وإنَّما يرحم الله تعالى من عباده الرُّحَماء”، وفي صحيح البخاري أن الرسول ـ ﷺ ـ دخل على ابنه إبراهيم ـ في دار ظِئْره ـ المُرْضِع ـ أبي سيف القين أي الحداد ـ وهو يَجود بنَفْسه، أي يحتضر، فجَعلَت عَيْنا الرسول ـ ﷺ ـ تَذْرِفَان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: “يا ابن عوف إنَّها رحمة” ثم أتبعها بأخرى فقال: ” إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرْضى ربنا وإنا بِفِرَاقك يا إبراهيم لمحزونون”.
وأما الأحاديث الصحيحة أن الميِّت يعذَّب ببكاء أهله عليه فليست على ظاهرها وإطلاقها، بل هي مُؤَوَّلة، واختلف العلماء في تأويلها على أقوال، أظهرها ـ والله أعلم ـ أنها محمولة على أن يكون له سبب في البكاء، إما بأن يكون أوصاهم به أو غير ذلك، وقد جمعتُ كل ذلك أو معظمه في كتاب الجنائز من شرح المهذب.
قال أصحابنا: ويجوز البكاء قبل الموت وبعده، ولكن قبله أولى، للحديث الصحيح:
“فإذا وجبت فلا تبكينَّ باكية”، وقد نص الشافعي ـ رحمه الله والأصحاب على أنه يُكره البكاء بعد الموت كراهية تنزيه ولا يَحْرُم، وتأوَّلوا حديث ” فلا تبكينَّ باكية” على الكراهة. انتهى مُلخصًا من الأذكار.
من هذا نعلم :
1- أن الصبر على المكاره ومنها الموت مطلوب.
2- مظاهر الجزع والسخَط على القضاء ممنوعة، من استحلَّها كفَر، ومن لم يستحلَّها كان عاصيًا.
3- الميِّت إذَا أوْصى بالحُزن الخارج عن الحدود يَناله نَصيب من المسئولية، وإن لم يُوصِ لا يُعذَّبُ بذلك، ولكن كان يَوَدُّ ألا تقَعَ منْهم هذه المظاهر.
4- أنَّ مجرد البكاء على الميت مسموح به طبْعًا وشرعًا، فهو رحمة في قلوب الرُّحماء، والرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ جَرَتْ عليه هذه السُّنَّة الطبِيعِيَّة، فَبَكَى مُحْتفظًا بإيمانه ورضائه بالقضاء.
5- إذا صَحِبَ البُكَاء قولٌ أو فعْلٌ يَتَنَافى مع الإيمان بقضاء الله كان معصية.
وبناءً على جَواز البُكَاء بدون مظاهر الجَزَع ماذا نَقول فيما رواه البخاري ومسلم أن النبي ـ ﷺ ـ أمر رجلًا أنْ يَحْثُوَ التُّراب في أفْوَاه النِّساء وهنَّ يَبْكِينَ جعفر بن أبي طالب؟
والجواب أن ابن الأثير أوْرد هذا الخبر في كتابه: “أُسْد الغابة” وذكر معه أن النبي ـ ﷺ ـ دخل على امرأة جعفر، وهي أسماء بنت عُمَيْس، فعزَّاها، ودخلت فاطمة وهي تَبْكِي فقال: “عَلَى مِثْلِ جَعْفَر فَلْتَبْكِ البَوَاكِي”، ثُمَّ وفَّق ابْنُ الأثير بيْن الخبر المانع للبكاء والخبر المُبيح له، بأن المنع كان لنِسْوة يَبْكين مع ندب ونياحة ولطْم خُدود، والإباحة كانت للبكاء المجرَّد عن ذلك، وجاء التوضيح في رواية أحمد عندما ماتَتْ زينب بنت رسول الله ، فبَكَت النساء فجعل عمر يضربْهُنَّ بِسَوْطه، فقال له “مهلًا يا عمر” ثم قال: ” إيَّاكُن ونعيق الشيطان”، ثم قال إنه مهما كان من العين والقلب فمن الله عز وجل ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان.