ثار الجدل حول لحم الدجاج الذي يضاف إلى علفه بعض المواد النجسة أو الكيماوية التي تسرع نموها وتزيد حجمها أو وزنها، وكان محور الجدل في نقطتين، إحداهما صحية والأخرى دينية.
وقد اختلف ذوو الاختصاص والخبرة في تأثيره على صحة الإنسان، ما بين مثبت للضرر، وبخاصة في علاقته بالفشل الكلوي والسرطان، ونافٍ لهذا الضرر، وبخاصة إذا كان يتغذى على علف مخلوط به مطحون عظام حيوانية، مع إشارة بعضهم إلى أن ما يمكن أن يكون من ضرر فهو ليس بهذا الحجم الذي يحرم تناول هذه اللحوم.
ومبدئيًا نقول: ما دام لم يجزم أهل الذكر بوجود الضرر البين الذي يؤثر تاثيرًا بالغًا بالصحة والمال والعقل وسائر ما حاطه الإسلام بالرعاية من أجل تأدية الإنسان وظيفته في الحياة على الوجه المطلوب، فلا وجه للقول شرعًا بمنع تناوله، لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فما دامت العلة -وهي الضرر المذكور- غير محققة فالأصل في الأشياء الحل، فإن تحققت كان المنع، وقد جاء الشرع لتحقيق المصلحة ومنع المفسدة، والله -سبحانه- يقول (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، والنبي -ﷺ- يقول في الحديث: “لا ضرر ولا ضرار” رواه ابن ماجة والدارقطني وغيرهما مسندًا: ورواه مالك في الموطأ مرسلاً، كما قال النووي في متن “الأربعين حديثًا النووية” وقال: حديث حسن.
وعلماء الإسلام تحدثوا عن هذا الموضوع من قديم الزمان بناء على نصوص وردت في ذلك منها:
1-عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -ﷺ- نهى عن أكل الجلالة وشرب ألبانها حتى تحبس. أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال البيهقي: ليس بالقوى.
2- عن ابن عمر أيضًا: نهى رسول الله -ﷺ- عن أكل الجلالة وألبانها، رواه الخمسة إلا النسائي. وقال الشوكاني: حسّنه الترمذي، واختلف فيه علي بن أبي نجيح فقيل: عن مجاهد عنه، وقيل: عن مجاهد مرسلاً، وقيل: عن مجاهد عن ابن عباس.
3- عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: نهى النبي -ﷺ- عن شرب لبن الجلالة، رواه الخمسة الا ابن ماجه وصححه الترمذي، وقال الشوكاني: وأخرجه أيضًا أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي، وصححه أيضًا ابن دقيق العيد، ولفظه: وعن الجلالة وشرب ألبانها.
4- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله -ﷺ- عن لحوم الحمر الأهلية، وعن الجلالة، عن ركوبها وأكل لحومها. رواه أحمد والنسائي وأبو داود، وقال الشوكاني: أخرجه الحاكم والدار قطني والبيهقي، وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعًا، وفيه النهي عن الجلالة، قال في التلخيص: إسناده قوي، أخذ بعض ما ورد عن الجلالة، والكلام في هذا الموضوع يدور حول تعريف الجلالة ومناط النهي، ودرجة هذا النهي وما ينبغي أن يتخذا حيالها وما هو المنهي عنه منها.
أ- فالجلالة هي كل ما يتناول العَذِرَة -بكسر الذال- والأرواث، والغنم والدجاج والأوز وغيرها من كل ما يتناول هذه المواد.
قال العلماء: ولا يطلق عليها وصف الجلالة إلا إذا كان غالب علفها من النجس، كلام جزم به النووي في تصحيح التنبيه، يقول الخطابي: فأما اذا رعت الكلأ واعتلفت الحب، وكانت تتناول مع ذلك شيئًا من الجلة فليست بجلالة، وإنما هي كالدجاجة المخلاة ونحوها من الحيوان الذي ربما ناله الشيء منها، وغالب غذائه وعلفه من غيره فلا يكره أكلها، وجاء في حياة الحيوان الكبرى للدميري “مادة سخلة” قوله: واختلفوا فيما يناط به الحرمة والكراهة، فقال الرافعي عن “تتمة التتمة”: إن كان أكثر أكلها الطاهرات فليست بجلالة، والأصح أنه لا اعتبار بالكثرة، بل بالرائحة، فإن كان يوجد في مرقتها أو فيها أدنى ريح النجاسة، وإن قل فالموضع موضع النهي، وإلا فلا، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن موضع النهي ما إذا وجدت رائحة النجاسة بتمامها أو كانت تقرب من الرائحة، فأما إذا كانت الرائحة التي توجد يسيرة فلا اعتبار بها، والصحيح الأول، إلحاقًا لها بالتغير اليسير بالنجاسة في المياه، فإن علفت الجلالة علفًا طاهرًا مدة حتى طاب لحمها وزالت النجاسة زالت الكراهة، ولا تقدر مدة العلف عندنا بزمن، بل المعتبر بزوال الرائحة بأي وجه كان.
ب- يؤخذ من هذا أن مناط النهي عن وجود رائحة النجاسة وتغير اللحم واللبن أو البيض، وذلك تابع في الغالب لكثرة ما تعلف به الدابة من النجاسة أو قوة تأثيره، يقول الدميري: ثم إن لم يظهر بسبب ذلك تغير في لحمها فلا تحريم ولا كراهة، ويقول القرطبي في تفسيره بعد ذكر الجلالة: هذا نهي تنزيه وتنظف، وذلك أنها إذا اغتذت الجلة وهي العذرة وجد نتن رائحتها في لحومها.
جـ- فإذ وجدت الرائحة أو غيّر اللحم طعمها، وقال العلماء بمنعه تناول لحومها وما ينتج عنه، فما هي درجة هذا المنع هل هي الحرمة أو الكراهة؟ يقول الشوكاني: والنهي حقيقة في التحريم، فأحاديث الباب ظاهرها تحريم أكل لحم الجلالة وشرب لبنها وركوبها، وقد ذهبت الشافعية إلى تحريم أكل لحم الجلالة، وحكاه في البحر عن الثوري وأحمد بن حنبل، وقيل: يكره فقط، كما في اللحم المذكَّى إذا انتن قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لو غذى شاه عشر سنين بأكل حرام لم يحرم عليه أكلها ولا على غيره، وهذا أحد احتمالي البغوي.
فيكره أكلها كراهة تنزيه على الأصح في الشرح الكبير والروضة والمنهاج، وبه جزم الروياني والعراقيون، وقال أبو اسحاق المروزي والقفال: كراهة تحريم، ورجحه الإمام الغزالي والبغوي والرافعي في المحرر.
ثم قال الدميري: وسئل سحنون -من فقهاء المالكية- عن خروف أرضعته خنزيرة فقال: لا بأس بأكله، وقال الطبري: العلماء مجمعون على أن الجدي اذا اغتذى بلبن كلبة أو خنزيرة لا يكون حرامًا، ولا خلاف في أن ألبان الخنازير نجسة كالعذرة، وقال غيره: المعنى فيه أن لبن الخنزيرة لا يدرك في الخروف إذا ذبح بذوق ولا شم ولا رائحة، فقد نقله الله تعالى وأحاله كما يحيل الغذاء، وإنما حرّم الله تعالى أكل أعيان النجاسات المدركات بالحواس، كذا قاله أبو الحسن على بن خلف بن بطال القرطبي في شرح البخاري “ووفاته سنة تسع وأربعين وأربعمائة”، وهو أحد شيوخ أبي عمرو بن عبد البر -رحمة الله تعالى عليه-. انتهى ما في الدميري.
د- وإذا كان المنع من أكل لحم الجلالة وشرب لبنها منوطًا بوجود النتن والتغير في الطعم والرائحة، فكيف تزول هذه العلة حتى يزول المنع؟
قال جماعة: يكفي زوال الرائحة والطعم بأية وسيلة من الوسائل، وقال آخرون: لا بد من حبس الدابة مدة حتى تزول الرائحة، وقال جماعة من هؤلاء: لا بد مع الحبس من العلف الطيب، وبدون ذلك يكره أكل اللحم وشرب اللبن، جاء في تفسير القرطبي، وقال أصحاب الرأي والشافعي وأحمد: لا تؤكل حتى تحبس أيامًا وتعلف علف غيرها –يعني غير الجلة-، فإذا طاب لحمها أكلت، وكان ابن عمير يحبس الدجاج ثلاثًا ثم يذبح، وقال إسحاق: لا بأس بأكلها بعد أن يغسل لحمها غسلاً جيدًا، وكان الحسن لا يرى بأسًا بأكل لحم الجلالة، وكذلك مالك بن أنس.
ويقول القرطبي: ومن هذا الباب نهي أن تلقى في الأرض العذرة عن ابن عمرو أنه كان يكري أرضه ويشترط ألا تدمن -تسمد- بالعذرة، وروي أن رجلاً كان يزرع أرضه بالعذرة، فقال له عمر: أنت الذي تطعم الناس ما يخرج منهم. انتهى.
وجاء في “نيل الأوطار” للشوكاني: قال ابن رسلان في شرح السنن: وليس للحبس مدة مقدرة، وعن بعضهم في الإبل والبقر مدة أربعين يومًا، وفي الغنم سبعة أيام، وفي الدجاج ثلاثة، واختاره في المهذب والتحرير، قال الإمام المهدي في البحر: فإن لم تحبس وجب غسل أمعائها ما لم يستحل ما فيه استحالة تامة. وقد اختلف في طهارة لبن الجلالة، فالجمهور على الطهارة، لأن النجاسة تستحيل في باطنها فيطهر بالاستحالة، كالدم يستحيل في أعضاء الحيوانات لحمًا ويصير لبنًا.
ويقول الدميري في “مادة سخلة” بعد نقل ما قيل عن مدة الحبس، وإنها محمولة على الغالب عندهم: فإن لم تعلف لم يزل المنع بغسل اللحم بعد الذبح ولا بطبخه وشيِّه وتجفيفه في الهواء، وإن زالت الرائحة بمرور الزمان عند صاحب التهذيب، وقيل بخلافه.
هـ- هذا.. والممنوع في الجلالة بوصف كونها جلالة، هو أكل لحمها وشرب لبنها وكذلك أكل البيض، وأيضًا حمل الأمتعة عليها، وركوبها بغير حائل بين ما يحمل عليها وبين جلدها، وذلك على سبيل الكراهية في الركوب.
بعد العرض لأحاديث الجلالة وأقوال العلماء نستخلص أن الدواب التي يخلط علفها بمادة نجسة ولم يظهر فساد في لحمها أو لبنها أو بيضها، ولا ضرر في تناوله لا يحرم أكل ذلك، ولا يكره لزوال علة النهي وهي الفساد، أما إن كان علفها كله من مادة نجسة وظهر فساد اللحم واللبن فالخلاف موجود بين الحكم بالحرمة أو الكراهة التحريمية أو الكراهة التنزيهية، وإن لم يكن فساد فلا حرمة، والأولى علفها بمادة طيبة مدة من الزمان حتى تقبل النفس عليها، فإن بعض النفوس لا تقبل بعض الحلال الذي لا شك في حله، فقد امتنع النبي -ﷺ- عن أكل لحم الضب وهو حلال، وجاء في الصحيحين أنه قيل له: أحرام هو؟ قال: “لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه”، وفي رواية مسلم: “لا آكله ولا أحرمه، كلوه فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي”. وكلام الأطباء والمتخصصين في هذا المقام له وزنه إن أجمعوا عليه.