لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ، فإذا مرت الأيام الثلاثة وجب أن تنقطع هذه الهجرة ، وقد اختلف العلماء في كيفية التصالح ، فذهب بعض الفقهاء إلى وجوب عودة الحال كما كانت ، واكتفى جمهور الفقهاء بإلقاء السلام كلما تقابلا ، وإن كان الأفضل أن تعود الحال كما كانت عليه قبل الخصام .
هل يزول الخصام بالسلام:
جاء في فتح الباري :-
قال أكثر العلماء: تزول الهجرة بمجرد السلام ورده.
وقال أحمد:لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أولا.
وقال أيضا: ترك الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام.
وكذا قال ابن القاسم .
وقال عياض:إذا اعتزل كلامه لم تقبل شهادته عليه عندنا ولو سلم عليه، يعني وهذا يؤيد قول ابن القاسم.
قال ابن حجر: ويمكن الفرق بأن الشهادة يتوقى فيها، وترك المكالمة يشعر بأن في باطنه عليه شيئا فلا تقبل شهادته عليه،
وأما زوال الهجرة بالسلام عليه بعد تركه ذلك في الثلاث فليس بممتنع، واستدل للجمهور بما رواه الطبراني من طريق زيد بن وهب عن ابن مسعود في أثناء حديث موقوف وفيه ” ورجوعه أن يأتي فيسلم عليه ” انتهى .
ومن الأدلة على مذهب الجمهورأيضا ما رواه أبو داود بسند صحيح ( فإن مرت به ثلاث فلقيه فليسلم عليه، فإن رد عليه فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلم من الهجرة “)انتهى.
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم :-
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ)
فيه: دليل لمذهب الشافعي ومالك ومن وافقهما أن السلام يقطع الهجرة ويرفع الإثم فيها ويزيله.
وقال أحمد وابن القاسم المالكي: إن كان يؤذيه لم يقطع السلام هجرته. انتهى.
وجاء في فيض القدير للمناوي :-
وذهب مالك والشافعي إلى أن السلام يقطع الهجر ويرفع الإثم ولو بنحو مكاتبة أو مراسلة كما أن تركه يزيد الوحشة .انتهى.
حكم الخصام وخطره:
يقول الدكتور القرضاوي مبينا حكم المخاصمة وخطرها :-
لا يحل لمسلم أن يهجر مسلماً ، ومن هنا حرم الإسلام على المسلم أن يجفو أخاه المسلم، ويقاطعه، ويعرض عنه، ولم يرخص للمتشاحنين إلا في ثلاثة أيام حتى تهدأ ثائرتهما، ثم عليهما أن يسعيا للصلح والصفاء والاستعلاء على نوازع الكبر والغضب والخصومة، فمن الصفات الممدوحة في القرآن (أذلة على المؤمنين) سورة المائدة:54.
قال النبي ﷺ: “لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلم من الهجر.
وتتأكد حرمة القطيعة إذا كانت لذي رحم أوجب الإسلام صلته، وأكد وجوبها ورعاية حرمتها. قال تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) سورة النساء: 1. وصور الرسول ﷺ هذه الصلة ومبلغ قيمتها عند الله فقال: “الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله”. وقال: “لا يدخل الجنة قاطع”. فسره بعض العلماء بقاطع الرحم، وفسره آخرون بقاطع الطريق فكأنهما بمنزلة واحدة.
وليست صلة الرحم الواجبة أن يكافئ القريب قريبه صلة بصلة وإحسانا بإحسان، فهذا أمر طبيعي مفروض إنما الواجب أن يصل ذوي رحمه وإن هجروه. قال عليه السلام: “ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي قطعت رحمه وصلها”.
وهذا ما لم يكن ذلك الهجران، وتلك المقاطعة لله وفي الله وغضباً للحق؛ فإن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.
وقد هجر النبي ﷺ أصحابه الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك خمسين يوما حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، ولم يكن أحد يجالسهم أو يكلمهم أو يحييهم حتى أنزل الله في كتابه توبته عليهم.
وهجر النبي ﷺ بعض نسائه أربعين يوما.
وهجر عبد الله بن عمر ابنا له إلى أن مات، لأنه لم ينقد لحديث ذكره له أبوه عن رسول الله ﷺ نهى فيه الرجال أن يمنعوا النساء من الذهاب إلى المساجد.
أما إذا كان الهجران والتشاحن لدنيا، فإن الدنيا لأهون على الله وعلى المسلم من أن تؤدي إلى التدابر وتقطيع الأواصر بين المسلم وأخيه. كيف وعاقبة التمادي في الشحناء حرمان من مغفرة الله ورحمته. وفي الحديث الصحيح: “تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس فيغفر الله عز وجل لكل عبد لا يشرك بالله شيئا؛ إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فقول: انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا.
ومن كان صاحب حق فيكفي أن يجيئه أخوه معتذرا، وعليه أن يقبل اعتذاره وينهي الخصومة، ويحرم عليه أن يرده ويرفض اعتذاره. وينذر النبي ﷺ من فعل ذلك بأنه لن يرد عليه الحوض يوم القيامة.
ما المقصود بإصلاح ذات البين:
وإذا كان على المتخاصمين أن يصفيا ما بينهما وفقا لمقتضى الأخوة، فإن على المجتمع واجبا آخر؛ فإن المفهوم أن المجتمع الإسلامي مجتمع متكامل متعاون، فلا يجوز له أن يرى بعض أبنائه يتخاصمون أو يتقاتلون، وهو يقف موقف المتفرج، تاركا النار تزداد اندلاعا، والخرق يزداد اتساعا.
بل على ذوي الرأي والمقدرة أن يتدخلوا لإصلاح ذات البين متجردين للحق، مبتعدين عن الهوى. كما قال تعالى: (فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) الحجرات:10.
وقد بين النبي ﷺ في حديثه فضل هذا الإصلاح، وخطر الخصومة والشحناء فقال: “ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: إنها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين”.