النوع الأول من الغارمين هو الذى يستدين في مصلحة نفسه، كأن يستدين في نفقة كسوة، أو زواج، أو علاج مرض، أو بناء مسكن، أو شراء أثاث، أو تزويج ولد، أو أتلف شيئًا على غيره خطأ أو سهوًا أو نحو ذلك.
روى الطبري عن أبي جعفر -ونحوه عن قتادة-: الغارم: المستدين في غير سرف، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال (تفسير الطبري بتحقيق محمود شاكر: 338/14).

شروط إعطاء الغارم لنفسه:

فهذا النوع يعطى ما يقضي به دينه بشروط:
أولها:
أن يكون في حاجة إلى ما يقضى به الدين، فلو كان غنيًا قادرًا على سداده بنقود أو عروض عنده لم يعط من الزكاة (وفي قول للشافعي: أنه يعطى مع الغنى، لأنه غارم. فأشبه الغارم لذات البين. وانظر: المجموع: 207/6. ونهاية المحتاج: 155/6). ولو وجد ما يقضي به بعض الدين أعطي بقدر ما يقضي به الباقي فقط. ولو لم يملك شيئًا وقدر على قضائه بالعمل والكسب أعطي أيضًا، لأنه لا يمكنه قضاؤه إلا بعد زمن وقد يعرض ما يمنعه من قضائه، وهذا بخلاف الفقير فإنه يحصل على حاجته بالكسب في الحال.
واشتراط حاجة المستدين إلى ما يقضي به الدين، ليس معناها أن يكون صفر اليدين لا يملك شيئًا.
فقد صرح العلماء بأنه لا يعتبر المسكن والملبس والفراش والآنية، وكذا الخادم والمركوب -إن اقتضاهما حاله- بل يقضي دينه وإن ملكها.
ولو كان للمستدين مال لو قضى منه دينه لنقص ماله عن كفايته، ترك له ما يكفيه، وأعطي ما يقضي به الباقي. والمراد بالكفاية عند الشافعية: الكفاية السابقة، وهي كفاية العمر الغالب فيما يظهر، ثم إن فضل معه شيء صرفه في دينه وتمم له باقيه.

الشرط الثاني: أن يكون قد استدان في طاعة أو أمر مباح. أما لو استدان في معصية كخمر وزنًا وقمار ومجون، وغير ذلك من ألوان المحرمات فلا يعطى، ومثل ذلك إذا أسرف في الإنفاق على نفسه وأهله ولو في الملاذ المباحة، فإن الإسراف في المباحات إلى حد الاستدانة حرام على المسلم. قال تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين) (الأعراف: 31).
وإنما لم يعط الغارم في المعصية، لأن في إعطائه إعانة له على معصية الله، وإغراء لغيره بمتابعته في عصيانه. وهو متمكن من الأخذ بالتوبة. فإذا تاب أعطي من الزكاة، لأن التوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
واشترط بعض الفقهاء: أن تمضي عليه مدة بعد إعلان توبته يظهر فيها صلاح حاله واستقامة أمره.
وقال آخرون: يكفي أن يغلب على الظن صدقه في توبته، فيعطى وإن قصرت المدة.

الشرط الثالث: أن يكون الدين حالاً. فإن كان مؤجلاً فقد اختلف فيه: قيل: يعطى، لأنه يسمى غارمًا. فيدخل في عموم النص. وقيل: لا يعطى، لأنه غير محتاج إليه الآن.
وقيل: إن كان الأجل يحل تلك السنة أعطي، وإلا فلا يعطى من صدقات تلك السنة (انظر في هذه الشروط: المجموع: 207/6 – 209، ونهاية المحتاج: 154/6، 155، وشرح الخرشي على خليل: 218/2).
والمختار عندنا: ألا يعمل بأحد هذه الأقوال حتى ينظر في حصيلة الزكاة، وعدد المستحقين لها من سائر الأصناف، ومقادير حاجاتهم. فإن كانت الحصيلة كبيرة، وكان عدد أصناف المستحقين قليلاً، أخذ بالقول الأول، وأعطي من الزكاة من كان دينه حالاً أو مؤجلاً. وإن كان الأمر بالعكس عمل بالقول الثاني، وأوثرت الأصناف الأخرى على من كان دينه مؤجلاً. وإن كان الأمر وسطًا أخذ بالقول الثالث.
وإن كان الفرد هو الذي يعطى الزكاة ويفرقها بنفسه، فينبغي أن يؤثر الأحوج فالأحوج.

الشرط الرابع: أن يكون شأن الدين مما يحبس فيه، فيدخل فيه دين الولد على والده، والدين على المعسر. ويخرج دين الكفارات والزكاة، لأن الدين الذي يحبس فيه ما كان لآدمي، وأما الكفارات والزكوات فهي لله (انظر حاشية الصاوي: 233/1).
هذا ما ذكره المالكية. ولم يشترط كل الفقهاء هذا الشرط. والحنفية يعتبرون الزكاة من الديون التي لها مطالب من جهة العباد، وهو الإمام.

كم يعطى الغارم لمصلحة نفسه:

يعطى الغارم لمصلحته قدر حاجته، وحاجته هنا: هي قضاء دينه، فإن أعطي شيئًا فلم يقض الدين منه، بل برأه منه الدائن، أو قضاه عنه غيره، أو قضاه هو من غير مال الزكاة. فالصحيح أنه يسترجع منه، لاستغنائه عنه (المجموع: 209/6). وسواء أكان الدين قليلاً أم كثيرًا، فإن المطلوب سداده عنه، وتفريغ ذمته منه.
روعة الإسلام في موقفه من الغارمين:
وموقف الإسلام من الغارمين والمستدينين بصفة عامة موقف فريد رائع:
(أ)
إنه أولاً يعلم أبناءه الاعتدال والاقتصاد في حياتهم حتى لا يلجأوا إلى الاستدانة.
(ب) فإذا اضطرت المسلم ظروف الحياة إلى الاستدانة كان عليه أن يعقد العزم على التعجيل بالوفاء والأداء فيكسب بذلك معونة الله وتأييده فيما نوى: “من أخذ أموال الناس وهو يريد أداءها أدى عنه الله، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله” (البخاري وأحمد وابن ماجة عن أبي هريرة (كنز العمال: 114/6).
(جـ) فإذا عجز عن أداء الدين كله أو بعضه مع دلائل تصميمه على الوفاء فإن الدولة تتدخل لإنقاذه من نير الدين الذي يقصم الظهور. ويذل أعناق الرجال. ولهذا قيل: “الدين هم بالليل ومذلة بالنهار” وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يستعيذ منه ويقول: “اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء” (قال الحافظ في بلوغ المرام ص 313: رواه النسائي وصححه الحاكم عن عبد الله بن عمر مرفوعًا).
وليس الدين خطرًا على نفسية المستدين واطمئنانه فحسب، بل هو خطر على أخلاقه وسلوكه كذلك. وهذا ما نبه عليه الحديث النبوي الكريم الذي رواه البخاري أن النبي -- كان كثيرًا ما يستعيذ بالله من المغرم -الاستدانة- فسألوه عن سر ذلك ولماذا يكثر من الاستعاذة من ذلك، ويقرنه بالاستعاذة من عذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، فقال لهم: “إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف” (رواه البخاري في كتاب الاستقراض: باب من استعاذ من الدين).
وهي لفتة نبوية صادقة إلى أثر الحالة الاقتصادية في الأخلاق والسلوك، وهو ما لا ننكره، وإنما ننكر على القائلين به جعلهم الاقتصاد هو العامل الوحيد، والمؤثر الفذ في سلوك الإنسان.

-وكان من الوسائل التي اتخذها النبي -- في تنفير أصحابه من الدين أنه لم يكن يصلي على من مات من أصحابه وعليه دين لم يترك وفاءه، وفي هذا زجر شديد لأصحابه عن الاستدانة، فإن كل واحد منهم يحرص كل الحرص على صلاة النبي عليه، ودعائه له، ويعد الحرمان من ذلك عقوبة كبيرة، وخسارة عظيمة.
ثم لما أفاء الله عليه، وفتح له، وكثرت موارد بيت المال، صار يتولى بنفسه سداد ديون المسلمين، وقد حدث بذلك أبو هريرة: أن رسول الله -- كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل: “هل ترك لدينه من قضاء”؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه وإلا قال: “صلوا على صاحبكم” فلما فتح الله عليه الفتوح قال: “أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفى وعليه دين فعلى قضاؤه” (متفق عليه. بلوغ المرام ص 180، وانظر: كنز العمال: جـ 6 باب: الترهيب من الاستقراض من غير ضرورة -ص 118- 122).
-ومن ذلك ترغيب المسلمين في معاونة الغارمين، قضاء لحق الإخوة، وأداءً لواجب التعاون، وابتغاء مثوبة الله. فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: أصيب رجل في عهد رسول الله -- في ثمار ابتاعها فكثر دينه فأفلس فقال رسول الله --: “تصدقوا عليه”.. فتصدق الناس عليه ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله -- لغرمائه: “خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك” (بلوغ المرام ص 177 باب: التفليس و الحجر).
-ومن ذلك السهم الذي جعله القرآن في أموال الزكاة لسداد هذه المغارم عن المدينين: (فريضة من الله).
ذلك هو هدي الإسلام في التعامل مع الغارمين. إنه يعين المستدين على التحرر من ربقة الدين، وينتشله من وهدته، ولا يتركه يسقط فريسة الديون ويعلن إفلاسه.
وما عرفنا إلى اليوم شريعة غير الإسلام تنص في صلب دستورها على سداد الديون عن المدينين، وتجعل ذلك فريضة من الله.
إن الإسلام بسداده هذه الديون العادلة عن أصحابها من مال الزكاة. قد حقق هدفين كبيرين:
الأول:
يتعلق بالمدين الذي أثقله الدين، وركبه من أجله هم الليل وذل النهار وأصبح معرضًا بسببه للمطالبة والمقاضاة والحبس وغير ذلك. فالإسلام يسدد دينه ويكفيه ما أهمه.
الثاني: يتعلق بالدائن الذي أقرض صاحب الدين، وأعانه على مصلحته المشروعة، فالإسلام حين يساعد على الوفاء بدينه، يشجع أبناء المجتمع على أخلاق المروءة والتعاون والقرض الحسن. وبهذا تسهم الزكاة من هذا الجانب في محاربة الربا.
وهكذا تأخذ شريعة الإسلام بيد الغارم المجهود ولا تكلفه بيع حوائجه الأصلية ليسدد ما عليه، ويعيش فارغًا من المقومات الأساسية للحياة، محرومًا من كل أثاث ومتاع يليق بمثله. كلا.

فقد كتب عمر بن عبد العزيز في خلافته إلى ولاته: أن اقضوا عن الغارمين، فكتب إليه من يقول: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والأثاث -أي وهو مع ذلك غارم- فكتب عمر إنه لا بد للمرء المسلم من مسكن يكنه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، ومن أن يكون له الأثاث في بيته. نعم.. فاقضوا عنه فإنه غارم (الأموال ص 556).

هذا هو هدي الإسلام في التعامل مع الغارمين وهو ما جاءت به شريعة الله، شريعة العدل والرحمة منذ أربعة عشر قرنًا. فأين من هذا ما جاءت به القوانين الوضعية، قوانين الحضارة والمدنية الحديثة من اضطرار التجار المدينين إلى إعلان إفلاسهم، وتصفية تجارتهم، وخراب بيوتهم، دون أن تقدم لهم الدولة أو المجتمع عونًا؟!.
-ثم أين من هذا الموقف -موقف شريعة الله العادلة الرحيمة- ما جاء به القانون الروماني في بعض أدواره، حيث أباح للدائن أن يسترق المدين؟!! جاء في القانون الروماني المسمى “قانون الألواح الاثني عشر”: “أن المدين إذا عجز عن دفع ديونه، يحكم عليه بالرق إن كان حرًا، ويحكم عليه بالحبس أو بالقتل إذا كان رقيقًا” !! (نقل ذلك مؤلف كتاب روح الدين الإسلامي ص 328).
ومثل ذلك ما كان معروفًا في المجتمع العربي في الجاهلية، من بيع من أعسر في الدين، لحساب الدائن. وروى بعضهم أن ذلك قد استمر فترة في أول الإسلام، ثم نسخ، ولم يعد للدائن سبيل إلى رقبة المدين (انظر تفسير القرطبي: 271/3). قال تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم، إن كنتم تعلمون) (البقرة: 280).