إن الأصل في نبش القبور، وإخراج الموتى منها، والانتفاع بالأرض عدم الجواز حفاظًا على كرامة الميت وحرمته . وهذا ثابت بالإجماع . إلا إذا وجد سبب شرعي يقتضي ذلك .

الأسباب الشرعية التي تجيز نبش المقبرة القديمة:

الأسباب الشرعية لذلك ترجع إلى أمور منها : 1- مرور زمن طويل على المقبرة، بحيث يعرف منها: أن الميت رم وبلي، وصار ترابًا، ويعرف ذلك بالخبرة، فإن البلاد والأرض تختلف طبيعتها .

2- إذا كان الميت يتأذى بوجوده في هذا القبر، كما إذا صار موضع القبر رديئًا لوجود مياه أو قذارة تنز عليه أو نحو ذلك .
3-إذا تعلق حق لآدمي حي بالقبر أو بالميت نفسه . حتى أن الفقهاء جوزوا شق بطن الميت من أجل مال قليل بلعه عمدًا أو خطأ، ومنهم من جوز نبش القبر من أجل درهم أو من أجل بيع أرض القبر بالشفعة ونحو ذلك “. (انظر: المجموع للنووي جـ 5 . والدر المختار وحاشية ابن عابدين جـ 1 ص 839 . ص: 840 ط استانبول) .

وعند الحنفية لا يجوز إخراج الميت بعد إهالة التراب عليه، إلا لحق آدمي، كما إذا سقط في القبر متاع أو كفن بثوب مغصوب، أو دفن معه مال، قالوا: ولو كان المال درهما، وكذلك إذا اشترى أرضًا فدفن فيها ميته ثم قام الشريك أو الجار ببيعها فتملكها بالشفعة، فهو مخير بين إخراج المدفون منها أو إبقائه فيها والتصرف في ظاهرها بالزرع أو البناء فوقها، قالوا لأن حقه في باطنها وظاهرها فإن شاء ترك حقه في باطنها، وإن شاء استوفاه “. (انظر الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه جـ 1 ص 839، 840 ط. استانبول) .
فإذا جاز مثل هذا التصرف من أجل حق آدمي فرد، فأولى أن يجوز لحق المجموع ومصلحتهم ودفع التضرر عنهم .

4- أن تتعلق بالمقبرة مصلحة عامة ضرورية لجماعة المسلمين، لا يتم تحقيقها إلا بأخذ أرض المقبرة أو جزء منها، ونقل ما فيها من رفات .
وذلك أن القواعد الشرعية العامة: أن المصلحة الكلية مقدمة على المصلحة الجزئية وأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام . فإذا كان هذا يطبق على الحي، حتى أن الشرع ليجيز نزع ملكية أرضه وداره وإخراجه من مسكنه من أجل حفر نهر، أو إنشاء طريق، أو إقامة مسجد، أو توسيعه أو نحو ذلك . فأولى أن يطبق على الميت، الذي لو كان حيًا ما رضى أن نؤذي إخوانه من أجله .

ما هي الأسباب التي تجوز شرعا للانتفاع بالمقبرة:

السبب الأول: هو وجود مياه قذرة ترشح على المقبرة من جور الصرف التابعة للبنايات المجاورة مما نشر عليها الأوساخ والروائح الكريهة .
وقد ذكر العلامة ابن قدامة الحنبلي في ” المغني “: أن الإمام أحمد سئل عن الميت يخرج من قبره إلى غيره . فأجاب بجواز ذلك إذا كان هناك شيء يؤذيه . أي مثل الماء ونحوه . وقال: قد حول طلحة، وحولت عائشة .

وسئل عن قوم دفنوا في بساتين ومواضع رديئة، فلم ير بأسًا أن يحولوا وينقلوا إلى مكان آخر. (المغني: جـ2 ص: 425 ط. مطبعة الإمام)
وقال المارودي الشافعي في الأحكام السلطانية: إذا لحق القبر سيل أو نداوة . قال أبو عبد الله الزبيري يجوز نقله، ومنعه غيره . قال النووي: قول الزبيري أصح، فقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – أنه دفن أباه يوم أحد مع رجل آخر في قبر . قال: ” ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته غير هينة في أذنه ” وفي رواية للبخاري: ” أخرجته فجعلته في قبر على حدة “.
قال النووي: وذكر ابن قتيبة في المعارف وغيره: أن طلحة بن عبيد الله أحد العشرة – رضي الله عنهم – دفن، فرأته ابنته عائشة بعد دفنه بثلاثين سنة في المنام، فشكا إليها النز، فأمرت به، فاستخرج طريًا، فدفن في داره بالبصرة. (فتاوى ابن تيمية: جـ 1 ص : 14).

والسبب الثاني : هو مصلحة الجماعة في المدينة التي تتعرض لأضرار كثيرة، وقد جاءت الشريعة برفع الضرر، ودفعه ما أمكن واحتمال أخف الضررين لدفع أكبرهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاها، وهذا من أصول الشريعة التي لا خلاف عليها .
فإذا كان إبقاء المقبرة كما هي يضر بمجموع المسلمين الأحياء، ترجحت مصلحة الأحياء وجاز الانتفاع بالمقبرة، ونقل ما بقى فيها إلى مقبرة أخرى .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه: أن معاوية في خلافته أراد أن يجري في المدينة المنورة العيون التي سميت ” عيون حمزة ” ولم يكن فيها من قبل عين جارية، فاقتضى ذلك نقل الشهداء من قبورهم، فصاروا ينبشونهم وهم رطاب، لم ينتهو حتى أصابت المسحاة رجل أحدهم، فانبعث دمًا. (فتاوى ابن تيمية: جـ 1 ص: 14) .

ولا شك أن معاوية فعل ذلك في المدينة، وفيها كثير من الصحابة . ولم ينكر ذلك عليه أحد منهم، وهذا يعد إجماعًا .