الحج هو الركن الخامس من أركان اللإسلام، وهو اتجاه المسلمين إلى مكة في وقت معين من العام مؤدين شعائر الحج بترتيب وكيفية محددة تُسمى مناسك الحج،والحج فرض عين واجب على كل مسلم عاقل بالغ وقادر؛ فهو أحد أركان الإسلام الأساسية، يقول رسول الله ﷺ :”بُني الإسلام على خمس: شهادة أنّ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، إقام الصلاة، إيتاء الزكاة وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا.”
المواقيت المكانية للإحرام بالحج أو العمرة عن طريق البر:
ممّا لا خِلاف فيه بين أئمة السلف من مُحدِّثين وفقهاء: أن المواقيت المكانيّة للإحرام قد حدَّدها رسول الله ـ ﷺ ـ للقادمين من جهاتٍ أربع كما يلي:
1 – ذو الحليفة لأهل المدينةِ، من أراد منهم الحج أو العمرة. وهذه أبعد المواقيت مَسافة عن مكّة، وتسمَّى اليوم (آبار علي).
2 – الجُحْفة لأهل الشام.
3 – قرن المنازل لأهل نجد القادمين من الشرق.
4 – يَلَمْلَم لأهل اليمن القادمين من الجنوب.
وقد أعلن رسول الله ـ ﷺ ـ حين حدّدها أنّ هذه الحدود هي مواقيت لأهل تلك الجِهات، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممّن أراد الحجّ أو العمرة، ومن كان دون ذلك (أي: من كان مقامه في موضع يقع بين أحد هذه المواقيت وبين مكة)، فإنه يُحْرِم من مقامِه ذاك، حتى إن أهل مكّة يُهِلُّون من مكّة. (أخرجه البخاري في باب: مهلّ أهل مكة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وأخرجه مسلم في مواقيت الحج والعمرة، وأبو داود، والنسائي، في ميقات أهل اليمن، كما نقله غيرهم من أئمة الحديث).
وواضح أن حديث المواقيت هذا لا يشمل بالنّص إلا أهل تلك المواقيت، ومن مرّ بها فقط، فليس فيه شيء عمّن لا يمرُّ فعلًا بأحدها، ولكنه حاذَى من قريب بعض تلك المواقيت، فإلحاق المُحاذاة بالمرور إنما تقرَّر بالاجتهاد، فقد روى أئمة الحديث أن عمر ـ رضي الله عنه ـ هو الذي حدّد ذات عِرْق ميقاتًا لأهل العراق، لمُحاذاتها قرنَ المنازل، اجتهادًا منه، وذلك بعد فتح العراق.
فقد روى البخاري عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: لما فُتِح هذان المِصران ـ الكوفة والبصرة ـ أتَوْا عمر بن الخطّاب فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن رسول الله ـ ﷺ ـ حُدَّ لأهل نجد قرنًا، وإنّه عن طريقنا، وإن أردنا أن نأتيَ قرنًا شقَّ علينا! قال: فانظروا حذوَها من طريقكم. قال: فحدّ لهم ذاتَ عِرق.
وروى الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ في “الأم” عن ابن جُريج عن ابن طاووس عن أبيه، قال: “لم يوقِّت رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ ذات عِرق، ولم يكن حينئذٍ أهل مَشرِق، فوقَّت النّاس ذات عِرق”. وروى الشافعي مثل ذلك عن أبي الشّعثاء (ر: الأم 2/118).
وهناك من الأئمة من يرى: أن تحديد ذات عِرق مهلًّا لأهل المَشرق وارد عن رسول الله ـ ﷺ ـ وليس اجتهادًا من عمر ـ رضي الله عنه ـ ويُوردون أحاديث في ذلك. ولكنّ جمهور أهل الحديث يقرّرون: أن الأحاديث التي ورد فيها النص على أن ذات عِرق ميقات لإحرام أهل المشرِق ـ كلّها ضعيفة لا تنهَض حجّة، فالصحيح عندهم أن هذا التحديدَ لأهل العراق والمشرِق إنّما هو اجتهاد من عمر، أخذًا بالمُحاذة السَّمْتيّة لأقرب مِيقات إلى جِهتهم. (ر:المجموع 7/191، ونيل الأوطار 4/332).
هل حدد رسول الله مواقيت الإحرام لغير البر كالبحر مثلا:
مما تقدَّم يتضح أن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ لم يحدِّد مواقيت مكانيّة إلا للقادمين بَرًّا من أطراف شبه الجزيرة العربية الثلاثة وهي: الشّمال، والشّرق، والجنوب؛ لأن هذه الجهات الثلاث هي التي يمكن ـ إذ ذاك ـ أن يأتي منها المسلمون حُجَّاجًا أو معتمِرين، وقد حَدّد للقادمين من الشمال مِيقاتَين: واحدًا لأهل المدينة (ذو الحُليفة)، وآخر لأهل الشّام (الجُحْفَة) لأنّ الشام كان فيه لأهل الحجاز رحلة الصّيف التّجاريّة، فقد يعودون من الشّام قاصدين حَجًّا أو عمرة، فهؤلاء عندئذٍ إما أن يأتُوا من طريق يثرب، فيتبعون ميقات أهلها، وإما أن يأتُوا من طريق أخرى لا تمرُّ بيثرب، فجعل الجُحفة عندئذٍ ميقاتًا لهم، وهي قريب من مكّة.
أما جهة الغرب فلم يحدِّد الرسول ـ ﷺ ـ لها ميقاتًا مكانيًّا؛ لأن الجهة الغربيّة بحرٌ، وفي الغرب منه أفريقيّة التي لم يصل إليها الإسلام إذ ذاك، ولا يعلم ما سيكون من أمرها إلا الله. وقد حدّد الفقهاء فيما بعد لأهل مصر والمغرب إذا جاؤوا بطريق البَرِّ ميقات أهل الشام، وهو الجُحفة؛ لأنه طريقهم الطبيعيّ ـ إذ ذاك ـ قبل شقِّ قناة السويس في عصرنا هذا.
وقد كان الرسول ـ ﷺ ـ كما هو معروف ـ لا يرغَب أن يقرِّر أحكامًا مسَّبقة، لأمور غير واقعيّة، حتى إنه لم يكن يرغب أن يُسأل عمّا سكتَ عنه، بل كان يترك ذلك للاجتهاد في ضوء سنّته الشريفة، ومقاصد الشّريعة المُستفادة من كتاب الله تعالى الحكيم، وخاصّة منها رفع الحرج، كما نَوَّه به القرآن العظيم.
ومعروفة قصة الصّحابي الذي سأل عن الحجِّ حين أوجبه الله على من استطاع إليه سبيلًا: أفي كلِّ عام يا رسول الله؟ فقال له: “لو قلت نعم لوجب عليكم ولَمَا استطعتم”(2)، وكذلك قوله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ في صحيح أحاديثه: “إن الله فرضَ فرائض فلا تضيِّعوها، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكتَ عن أشياءَ رحمةً بكم فلا تسألوا عنها”(3) أي: لا تسألوا عنها قبل وقوعها، فإذا وقعت فاجتهدوا برأيكم وعلمكم، أو اسألوا عندئذٍ أهل الذِّكر والعلم، وليس المراد عدم السؤال عنها أبدًا؛ إذ لو وقعت في مستقبل الزمن، واحْتِيج إلى معرفة حكم الشرع فيها، لابد حينئذٍ من السؤال عنها، والبحث فيها لمعرفة ما يجب بشأنها في ضوء أدلة الشريعة.
وفى ضوء ما تقدّم يتبيَّن أن الرسول ـ ﷺ ـ لم يحدّد أيضًا ميقاتًا بحريًّا؛ لأن المجيء للحجّ والعمرة ـ إذ ذاك ـ في حياة الرسول ـ ﷺ ـ لم يكن بالسّفينِ من جهة البحر الأحمر (بحر القلزم)، فيبقى حكمه في المستقبل للاجتهاد، إذا قدَّر الله للإسلام أن يمتدّ غربًا إلى أفريقيّة، كما حصل فيما بعد، والحمد لله.
هذا؛ وقد قرّر الفقهاء أن من لم يمُرّ بأحد هذا المواقيت، بل سلك طريقًا بين مِيقاتين، فإنّه يتَحَرَّى ما يحاذي أحدهما من طريقه بغلبة الظّنِّ فيُحْرِم منه، فإن لم يَتبيّن له قال الحنفيّة: يُهِلُّ عندئذٍ بالإحرام على بعد مرحلتَيْن من مكّة؛ لأن هذه المسافة هي أدني تلك المواقيت إلى مكة (ر: الدر المختار 2/154 ـ البولاقية الأولى ـ والمُقنع من كتب الحنابلة 1/394 والمغني مع الشرح الكبير / “ط أولى 3/214 والإنصاف للمِرْداوي 3/427).
في ضوء ما تقدم من عرض الواقع في عهد الرسول ـ ﷺ ـ من تحديد ما حَدّد بالنص الصريح من مواقيت الإحرام، وما سكت عنه، وتركه للاجتهاد من علماء الأمة، وما حدث بعده من اعتماد المُحاذاة باجتهاد عمر ـ رضي الله عنه ـ، أقول: إن مُعالجة قضايا الساعة لا يصحُّ منا أن نعالِجَها، ونقرّر لها حلولًا شرعيّة مُنطلقين من خلفيّة مذهبيّة، أو فكرة مسبَقة ننظر من زاويتِها إلى القضية المستجِدّة، ونجرِّدها من مُلابساتها وظروفها الخاصّة لنجرَّها جَرًّا إلى المقعد الذي هيّأناه سلفًا إلحاقًا وتعميمًا، سواء أكان ملائِمًا لطبيعتها وظروفها وملابساتها، أو غير ملائم، ولو كان هذا الإلحاق والتعميم سيزجُّ بالمكلَّفين في مشقّة وحرج، نفَتْهما النُّصوص القطعيّة في الكتاب والسنة عن هذه الشريعة السّمحة الخالدة.
فقضايا الساعة (ومن أكبرها أهمية وحاجة للحلول الشرعية المناسبة اليوم موضوعنا هذا، وهو: من أين يجب أن يُحْرِم القادم جَوًّا بالطائرة للحج أو العمرة) يجب أن تعالَج بفكر فقهي حرٍّ، كأنّما يريد أن يرى النصوص والأدلّة المتعلِّقة بها لأول مرّة مجرَّدًا عن الخلفيّات المذهبيّة، والآراء المسبَقة؛ التي تتحكَّم في توجيه فكره دون أن يشعُر، وعليه أن يُنعم النظر في النصوص، وأن يتفهّمها وفقًا للغة وأساليب البيان المعهود في وقت ورود النص الشرعي، وما يُوحي به للسامع من فهم بحسب القواعد والدّلالات العرفية.
هذا إلى جانب الأساس المُهِمّ الآخر، وهو مقاصِد الشّريعة التي دلت عليها النصوص القطعية العامّة، والتي لا يمكن عزلها، وقطع عَلاقتها بالنّصوص الخاصّة إذا أردنا أن نفهمها فهمًا سديدًا، لا نبغي فيه سوى معرفة حكم الشارع، والحلّ الصّحيح في القضية المستجِدة، سواء وافَق تصوراتِنا السابقة فيها، أو خالَفها، فإن التّعصُّب لرأي، أو تصوُّر سابق يحجُب عن البصيرة الرّؤية السليمة، والإحاطة بالمسألة من جميع جوانبها وظروفها، فبناء على هذا المنطلَق أقول: إنّ حديثَ المواقيت المكانيّة الذي روته كتب السنة الصحيحة، وهو النّص الأصلي الوحيد في الموضوع، لا يمكن أن يعتبر شاملًا للطريق الجويِّ اليوم، ولو مرّت الطائرة القادمة بقاصِدي الحج أو العمرة من فوق أحد المواقيت الأرضيّة، وبالتالي: لا يمكن فيه تطبيق حكم المُحاذاة لأحد المواقيت تلك؛ المُحاذاة التي ألحقها سيِّدنا ـ عمر رضي الله عنه ـ بالمرور بالمِيقات، وذلك لما يلي:
إن حديث المواقيت محمول على الطرق المعروفة المألوفة في ذلك الوقت، وهي الطرق البَرِّيّة، التي يُمكن أن يسلُكها القادِمون لحجٍّ أو عمرة من أطراف الجزيرة العربيّة؛ التي مدّ عليها الإسلام رواقَه، وهو في الوقت نفسه لم يحدِّد ميقاتًا، من جهة الغرب، كما سبق أن أوضحته نصًّا وصراحة بمن يمرُّ بها فعلًا، وذلك حين قال ـ عليه الصلاة والسلام: “هُنَّ لهنَّ ولمَن أتى عليهنّ من غير أهلهِنّ”(4) وهذا الإتيان لا يمكن أن يتصوّره أي سامِع، إلا أنّه المرور في الأرض. وإذا كان أهل الميقات المقيمون حوله قد وجب عليهم الإحرام منه، فمن أتى على هذا الميقات من خارجه، وكان طريقًا له، أصبح هو وأهل ذلك الميقات سواء؛ لأنه قد أصبح بينهم كواحد منهم، فلا يعقل أن يجب عليهم الإحرام منه ولا يجب عليه. وهذا المعنى لا يتحقق إلا فيمن مر بالميقات نفسه أرضًا؛ لأنّ المرور فوق الميقات جوًّا كما تمرُّ الطيور، لم يكن في بال أحد من الصحابة أهل اللسان الذين خُوطِبوا به، ولا في حسبانه، ولا يمكن أن يتصوره، حتى يفهَم: أنه داخل في هذا التحديد.
هل للقادمين بالطائرة ميقات للإحرام بالحج أو العمرة:
نستطيع القول: إن الطّيران بالطائرات التي نُسافر بها اليوم لو كان موجودًا في عصر الرسول ـ ﷺ ـ حين حدّد هذه المواقيت الأرضيّة لأجل الإحرام، لما كان المرور جوًّا بالطائرة فوق بقعة الميقات مشمولًا بهذا الحديث؛ لأن المرور بالميقات الذي يجعل المارَّ به كأهل الميقات، لا يفهم منه في أسلوب البيان إلا المرور الأرضي فعلًا، فهذا ما يفهمه أهل اللسان الذين خوطِبوا به، وهذا ـ أي: ما يفهمه أهل اللسان في اللغة التي جاء بها النصّ ـ هو أساس في فهم النّصّ عظيم الأهميّة لا يمكن تجاهله، وتجاوزه.
إن الإمام أبا إسحاق الشاطبيّ ـ رحمه الله ـ في كتابه الإبداعي “الموافقات في أصول الشريعة” قد بسط القول في قسم المقاصد من كتابه هذا تحت عنوان (قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام) حول أساسين في فهم قصد الشارع، لا تجوز الغفلة عنهما، وهما:
أولاً: أن هذه “الشريعة المبارَكة عربيّة، وأن القُرآن الحكيم عربي”.
ثانيًا: أنّ هذه “الشريعة المبارَكة أميَّة، لأنّ أهلَها كذلك”.
أما الأول فلقوله تعالى: (إنَّا أَنْزَلْناه قُرْآنًا عَرَبيًّا) (يوسف: 2) وقد تكرّر هذا الإعلان في آيات أخرى. وأما الثاني فلقوله تعالى: (هو الذي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسولًا مِنْهُمْ) (الجمعة: 2) وقد تكرّر أيضًا هذا في آيات أخرى.
وجاء أيضًا في صِحاح الأحاديث قول الرسول ـ ﷺ: ” إنّا أمّة أُمّيّة لا نحسب ولا نكتُب، الشهر هكذا وهكذا..”(5) وقد فسَّر الشاطبي الأمِّي بأنه “منسوب إلى الأم”، وهو الباقِي على أصل وِلادة الأم لم يتعلّم كتابًا ولا غيره، فهو على أصل خِلْقَته التي ولد عليها”. وفسّر الأمّة الأميّة بأنهم: “ليس لهم معرفة بعلوم الأقْدمينَ”، وقد يبدو لأول وهلة أن كون القرآن عربِيًّا، والحديث النبوي عربيًّا هو من البَدَهِيّات التي لا تحتاج إلى بسط وإيضاح وشواهد وأمثلة وتنبيهات في فصول من كتاب، كما فعل الشاطبي ـ رحمه الله ـ في موافقاته.
ولكن الذي يرى النتائج التي بيّنها الشاطبي ـ رحمه الله ـ بناء على هذين الأصلين الأساسيين في فهم الشريعة، وتنزيل نصوصها في الكتاب والسنة النبوية على منازلها الصّحيحة، يدرك عندئذٍ أن قضية هذين الأساسين ليست من البَساطة والبَداهة كما يتراءى لأول وهلة. (ر: الموافقات 2/64 ـ 107).
وأول هذه النتائج وأهمّها يتلخّص في أن المقصود هنا من بيان الأساس الأول هو أن القرآن قد نزل بلسان العرب، وأساليبهم البيانيّة، فطلب فهمه إنما يكون بالطريق التي يفهمه مَن خوطِبوا به حين أُلْقِي إليهم، وهم أهل هذا اللسان خاصّة، على أميتهم وجهلهم بالعلوم والفلسفات التي وُجِدَت لدى غيرهم من الأمم، وجهلهم بالاصطلاحاتِ والمَفاهيم الطارئة حين أُسِّسَت العلوم، ووضعت فيها الاصطلاحات، وحُدِّدت لها المفاهيم العلميّة في اللغة العربيّة بعد ذلك.
هذا يستلزم أنّ مَن يكون أكبر فقيه، وأرسخ عالم في العصور العلميّة اللاحقة، يجب أن يفهم النصَّ القرآني، أو الحديث النبوي كما يفهمه صحابة رسول الله ـ ﷺ ـ وكما يفهمه البدويُّ الأُمِّيُّ من العرب إذ ذاك؛ لأنّهم هم أهل اللسان الذي خوطِبوا به، ففهم أي عالم لمدلول النَّصِّ بعد ذلك، مهما علا كعبه في العلوم، وطال باعُه، يجب أن يكون تَبْعًا لفَهم ذلك العربيّ الأول ابن اللسان الذي جاء به ذلك النَّصّ، وخوطِب به.
قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ في هذا المقام: “فإن قلنا إن القرآن نزل بلسان العرب، وإنه عربيّ لا عُجْمَة فيه، فبمعنى أنّه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصّة، وأساليب مَعانيها، وأنّها فيما فُطِرَت عليه من لسانِها تُخاطَب بالعام يُراد به ظاهرُه، وبالعامّ يُراد به العامُّ في وجه، والخاصُّ في وجه، وبالعام يُراد به الخاصُّ، وبالظاهر يُراد به غيرُ الظاهر، وكلُّ ذلك يُعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وأنها تتكلّم بالكلام يُنْبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلّم بالشيء يُعرف بالمعنى، كما يُعرف بالإشارة… وكلُّ هذا معروف عندها، لا تَرتاب في شيء منه هي، ولا من تعلق بعلم كلامها.
فإذا كان كذلك، فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب…والذي نبَّه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام في رسالته الموضوعة في أصول الفقه، وإن كثيرًا ممّن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذَ، فيجب التّنبُّه لذلك، وبالله التوفيق (الموافقات 2/66).
أقول: ومن الواضح أنّ مثلَ هذا الاعتبارِ يجب أن يُراعَى في فَهم كلام الرسول ـ ﷺ ـ وتنزيل أحاديثه الشريفة ـ وهي من جوامع الكَلِمِ العربي ـ على هذا الترتيب نفسه في فَهم نصوص القرآن.
ثم أفاضَ الشاطبي في شرح “أن الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك، إذ لم يكن لهم معرفة بعلوم الأقدَمين”، وأن تنزيلَها على مقتضى حال الذين نزلت عليهم من أميّتهم هو الأوفق والأحرى مع رعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم.
وقد أوضح العلامة الشيخ عبد الله دراز في تعليقاته: أنه وَفقًا لهذا الاعتبار، ربطت الشريعة مواقيت الصلاة بالدلائل الحسِّية المشهودة من الزّوال والغروب والشّفق، ممّا لا يحتاج إلى علوم كونيّة، وآلات وتقاوِيم فلكيّة…
أقول: وواضح أن الشّريعة السمحة الخالدة إذا صلحت للأميِّين حتى يسهُل تطبيقها عليهم، صلُحت لغيرهم من أهل العلوم وللناس أجمعين، ولا عكس. وهذا من أسرار آخريّتها وصُلوحها للخلود ما دام لبني الإنسان وجود، فجلَّت حكمة الله فيما شرع لعباده.
ثم قال الشاطبي بصدَد ما تفرّع عن أُمّيّة الشريعة: “إنّه لابد في فهم الشّريعة من اتباع معهود الأمِّيِّين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانِهم، فإن كان للعرب في لسانهم عُرف مستمرّ، فلا يصحُّ العدول عنه في فَهم الشّريعة، وإن لم يكن ثَمَّ عُرف، فلا يصحُّ أن يجريَ في فهمِها على ما لا تعرِفُه، وهذا جارٍ في المعانِي والأساليبِ”.
بعد هذه المقتطفات من كلام الإمام الشاطبي عن أن الشّريعة أميّة، وأنّها ودستورَها ـ وهو القرآن ـ عربيّان بالمعنى المشروح، (وكذلك بَيان رسولها نبي الهدي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ ) نعود إلى موضوعنا حول ميقات الإحرام الواجب للقادم جوًّا بالطائرة لحجٍّ أو لعُمرة، في ضوء ما نقلنا عن الشاطبي رحمه الله، فأقول: إن النبيّ ـ ﷺ ـ قد حدَّد تلك المواقيت المكانيّة لأهلها، ولمن أتى عليها، ومرّ بها من غير أهلها، وهذا منه بيان وتحديد لقوم أمّيِّين، وبلسان عربي مبين، هم أهله الأصليُّون، وأن علينا وعلى جميع الأجيال المُسلمة التي تتلوهم من علماءَ في الشريعة، وفي الطبيعة، وفي مختلف العلوم من عرب وأعاجم، أن لا نفهَم من نصوص القرآن وكلام الرسول ـ ﷺ ـ إلا ما يفهَمُه ـ إذ ذاك ـ أولئك الأمِّيُّون أهل العربيّة المخاطَبون بها بحسب مألوفِهم، ومعهودِهم، وعُرْفِهم، كما يقول الإمام الشاطبيّ.
وإذ كان كذلك، فمن الذي يستطيع أن يزعُمَ أنهم يمكن أن يفهموا من تحديد الرسول لهم تلك المواقيت المكانيّة أنها شاملة للقادم جَوًّا بطائرة في مستقبل الدّهر إذا اخترع البشر آلة تطير بهمْ، ومرتْ بأحد ركابها فوق ميقات أرضي وهو في السماء، أو حاذَى سَمْته؟! مع العلم أننا أوضحنا قبلًا أن الحديث النبوي المذكور لا يشمل المُحاذاة من قريب أو بعيد، بل هو مقصور على أهل تلك المواقيت ومَن مَرَّ بأحدها، وأن إلحاق المُحاذاة لأحد المواقيت بالمرور به فعلًا هو اجتهادُ عمر رضي الله عنه.
ونحن نضع اجتهادَه هذا فوق الرأس والعينين، وهو معقول في ذاته؛ لأنّ ما تَقتضيه حرمةُ البيت المعظَّم مِن أن يتهيّأ مَن يقصده لحج أو لعمرة بالإحرام قبل الوصول إليه، هو ممّا ينبغي أن يستويَ فيه كل قاصد، سواء مرّ بالميقات الذي حدّده رسول الله ـ ﷺ ـ أو جاء من طريق أخرى لا تمرُّ به، فجعل المحاذاة لأحد المواقيت هي الحدُّ لغير مَنْ يمرُّ بالميقات، وهو قياس معقول مبنيٌّ على علّة متَّحِدة.
ولكن هذا القياس السليم لا يجوز أن يَخرج عن أرضيّة المسألة، وهي أن تلك المَواقيت التي حدّدها الرسول ـ ﷺ ـ لا يفهَم منها أهل اللسان الذين خوطِبوا به، إلا أنها لأهلها، ولن يمرَّ بها المرور المُعتاد الذي لا يعرفون سواه، وهو المرور بها في موقعها على سطح الأرض؛ لأن هذا هو ما تدلُّ عليه لغتهم التي خوطِبوا بها حين قال لهم الرسول عن هذه المواقيت: “هنّ لهُنّ ولمَن أتى عليهن من غير أهلِهن”، ولا يمكن أن يتصوَّر أحدُهم ـ إذ ذاك ـ مرورَ أحد من فوق الميقات، وهو طائر في الجوِّ.
وقد رأينا آنفًا قول الشاطبي: “إنّه لابد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأمِّيِّين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، وأنه لا يصحُّ أن يجريَ في فهمِها على ما لا يَعرفونه، وأنّ هذا جارٍ في المعاني والألفاظ والأساليب..”.
فاجتهاد عمر ـ رضي الله عنه ـ في إلحاق المحاذاة لا يمكن أن يتجاوز الأصل، فكما أن النصَّ الأصلي ـ وهو حديث المواقيت ـ معناه المرور بالميقات فعلًا على سطح الأرض، فإن المُحاذاة التي ألحقها به عمر معناها المُحاذاة ممَّن يمرُّ فعلاً حذوَ الميقات المرور المعتاد على سطح الأرض؛ ذلك لأن المَقيس لا يمكن أن يُعطَى أكثر من حكم المَقيس عليه. فإذا كان نصُّ الحديث النبوي لا يتناول القدوم جَوًّا، ممّا لم يكن في حسبان أهل اللسان، ولا مَعهودهم، فكذلك المحاذاة الملحقة بطريق القياس والاجتهاد لا تطبّق على طريق الجوِّ؛ الذي لم يكن يتصوّره عمرُ نفسُه صاحب هذا الاجتهاد القياسي.
هل يوجد نص صريح لميقات الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة:
القدوم جَوًّا لا نصَّ فيه: ونخلُص من جميع ما تقدّم بيانُه: أنّ القادمين اليوم بطريق الجوِّ في الطائرات لحجٍّ أو عمرة، لا يشملُهم تحديد المواقيت الأرضيّة التي حدّدها رسول الله ـ ﷺ ـ وهم في الجوّ.
فهي حالة قد سكت عنها النصّ؛ لأنّها لم تكن في التصوّر أصلًا، كما سكت عن القادمين من الجهة الغربيّة إذ لم يكن إذ ذاك مُسلمون يقدُمون من إفريقيّة من وراء البحر، ولا من مصر.
أما الشّام فإنه ـ وإن لم يكن فيه مُسلمون إذ ذاك ـ فقد كانت تِجارة قريش وعَرب الحجاز قائمة مع الشام في رحلة الصيف، فقد يعودون منه قاصدين حَجًّا أو عمرة، فلذا حدّد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ للقادمين من الشام الجُحفة ميقاتًا لهم، كما أسلفنا بيانَه.
وإذا كان القدوم جَوًّا ليس مشمولًا بتحديد المواقيت المكانيّة لما قد بيّنا، فهو إذا خاضع للاجتهاد في تحديد ميقات مكاني للقادمين منه بالوسائِط الجديدة المبتكرة في عصرنا هذا، كسائر قضايا الساعة التي ليس عليها نصٌّ، فيجب أن يقرِّر الاجتهاد لها الحكم المناسب في ضوء أصول الشريعة ومقاصدها، وفي طليعتها رفعُ الحرج.
وفي نظرنا أن الحكم المناسب في هذا الموضوع، والذي لا يترتب عليه حرج ولا إخلال: هو أنّ القادمين بالطائرات اليوم لا يَجب عليهم الإحرام إلا من بعد أن تهبِط الطائرة بهم في البلد الذي سيسلُكون بعده الطريق الأرضي، فإذا هبطت الطائرة بهم في بلد يقع خارج المواقيت، يكون عندئذٍ ميقاتُهم للإحرام هو الميقاتَ الذي سيمرُّون به، أو من الموقع الذي يحاذِي أحد المواقيت المحدّدة لمختلف الجهات، إذا كانوا لا يمرّون بأحد تلك المواقيت.
أما إذا كان المكان الذي تهبط فيه الطائرة بلدًا يقع بعد أحد المواقيت المذكورة، أي: بينه وبين الحَرَم، فإن ميقاته للإحرام هو ذلك البلد نفسه، فيصبح حينئذٍ كأهله، فلا يجوز له أن يجاوزَه إلا مُحْرِمًا.
وبما أن المطار الدوليّ اليوم الذي يهبط فيه الحُجّاج والمعتمِرون هو في مدينة جدّة، وهي واقعة ضمن بعض المواقيت، فإن القادمين بطريق الجو إلى جدة لحج أو لعمرة، يكون مِيقاتُهم للإحرام مدينة جدّة، فلا يجوز أن يتجاوزوها إلا مُحرِمين؛ لأنهم يُصبحون عندئذٍ كأهل جدة، فيُحرِمون من حيث يُحرِم أهلها.
فلو أن المطار الذي يهبط فيه الحجاج أو المعتمِرون نُقِلَ فيما بعد إلى مكّة؛ لأصبح القادمون جوًّا كأهل مكّة، فيُحرِمون من حيث يُحرم المكِّيُّون.
أي: أن القادم بالطائرة بوجه عام، من أي جهة كان قدومه، متى هبطت طائرته في مكان آخرَ لكي يتابِعَ بعده السير بالطريق البريِّ، يأخذ عندئذٍ حكمَ أهل ذلك المكان بشأن الإحرم.
الإحرام بالطائرة إذا مر بمحاذات المواقيت:
أما القول بأن عليه أن يُحرِم وهو في الطائرة في الجو متّى مرّت الطائرة بأحد المواقيت، أو حاذته، فهذا لا نرى دليلًا شرعيًّا يوجبه، وهو مبني على تصوُّر أن القدوم جوًّا بالطائرة مشمول بالحديث النبوي الذي حدَّد المواقيت الأرضيّة. وهذا رأي غير سليم في فهم النصوص فهمًا فقهيًّا كما سبق إيضاحه، علاوة على ما فيه من حَرج شديد وصعوبة، قد تصلُ إلى حد التعذُّر بالنظر إلى حال الطّائرات العاّمة، ولا سيِّما الدرجة السياحيّة فيها (وهي التي تأخذها الجماهير)، وضيق مقاعِدها لاعتبارات تِجاريّة، حتى إن الراكب ينزل في مقعَده كما ينزل الإسفينُ في الخشب، ويعسُر عليه التحرُّك في تناول وجبة الطّعام، فضلًا عن أن يخلع ملابِسه المَخيطة ويرتدي الرِّداء والإزار..وأين في الطائرة مغتسَل ومصلًّى ليقيم سُنَّة الإحرام؟
وأغرب من ذلك قول من يقول: إن هذا الحرج يمكن رفعُه، بأن يُحرِم بملابسه في الطائرة، ثم يخلعُها بعد الهبوط ويَفْدي بدم جزاء..فمتى كانت هذه الشريعة الحكيمة السمحة تُكَلِّف أحدًا ما يُشبه المستحيلَ لتعسُّره أو تعذُّره، على أن يخالِفه المُكَلَّف، ويتحمَّل بدلًا منه جزاءً مكلّفًا؟ إن الشريعة الحكيمة بَراء من مثل هذا التكليف.
وأشد غَرابة من هذا رأي من يقول ـ وكل هذا قد سمعناه ـ أن الحلّ لهذه المشكلة هو أن يُحْرِم من يريد القدوم بالطائرة من بيتِه قبل ركوبِها! فماذا يقول هؤلاء إذا كان قاصد الحج، أو العمرة من أهل موسكو أو سيبريا قادِمًا في الشتاء، حيث درجة الحرارة خَمسون تحت الصِّفر بمقياس سنتيغراد؟!
هوامش :
(1) من كتاب “العقل والفقه في فهم الحديث النبوي” للأستاذ الزرقا من 99-118 باختصار.
(2) رواه مسلم (1337) في الحج، والنسائي (2619) في الحج)
(3) رواه الدارقطني 4/183ـ 184، والطبراني في الكبير 22 / (589)، والبيهقي 10/12 من حديث أبي ثعلبة الخَشْني ـ رضي الله عنه ـ، وقد حسّنه النووي في أربعينه، وكذلك حسنه قبله الحافظ أبو بكر السمعاني في “أماليه”.
(4) رواه البخاري (1524)، ومسلم (1181) كلاهما في كتاب الحجّ.
(5) رواه البخاري (1913)، ومسلم (1080) كلاهما في الصوم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.