إن دين الإسلام لا سلطان لعرف ولا تقليد عليه ، حتى لو اتُّخذت أحكام الدين باعتبارها عُرفًا أو توارثًا لما كانت دِينًا ، فالدين هو الحاكم على التقاليد وليس العكس ، ولابدَّ مِن تشخيص هذه التقاليد والنظر فيها من جهة مُوافقتها للدِّين أو مُخالفتها.

يقول الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق- رحمه الله- :

الأصل في التقاليد وضْع القلادة في العُنُقِ، وهي ما تَتَزَيَّنُ به المرأة، أو يُعرف بها البعير ومنه قُلِّد البعير وقُلدت المرأة ، ثم قيل: قلَّده العمل: إذا أضافه إليه وطلبه منه ، وقيل: قلَّد في الرأي إذا أخذ بقولِ غيره دون حُجة ، ويُقال: تقلَّدتِ المرأة ، وتقلَّد فلان العملَ ، وتقلَّد مذهب فلان ، والمعنى في كل ذلك الْتزم ما تقلَّده من عمل أو رأْيٍ أو قِلادة ، ومن هذا قيل: تقلَّدت الأَمَة كذَا: أيْ اتَّخذتْه كالقلادة إذا الْتزمتْه وسارت عليه ، وأطلق “التقليد” على نفس الشيء الذي تقلَّدتْه ، وبذلك انتقلت الكلمة إلى الصورة العملية التي تتقلَّدها وتتمسَّك بها الأُمم في نواحي حياتها الاجتماعية.

ومنْشأُ التقاليد في الأُمَّة: إمَّا عُرْفٌ نَبَتَ فيها ثُم عَمَّ وانتشر، وإما مُجاراة غيرها فيها وأخذها عنه ، وعلى كل حال لم تعهد الكلمة إلا في العادات التي مصدرها العُرف أو التوارُث أو النقل من جماعة أُخرى مُجاورة .

التقاليد تختلف من أمة لأخرى:

ومِن هنا اختلفت تقاليد الأمم في النواحي الاجتماعية باختلاف العُرف أو التوارث أو النقل، وكان لكل جماعةٍ تقليد يُغاير تقليد الجماعة الأخرى، فللعرب في زِيِّهِمْ تقليدٌ ، وفي موائدهم تقليد ، وفي أفراحهم ومآتِمِهم تقليدٌ ، وللغرب في كل ذلك تقليد .

الدين لا سُلطان لعُرف أو تقليد عليه:

وكثيرًا ما تختلف التقاليد مع اتِّحاد الدين ووحدة أحكامه ؛ ودلَّ ذلك على أن التقاليد شيء والدين شيء آخر. ولو وُضِعَ الدِّين موضع التقاليد أو أُطلقت على الدِّين لمَا كان الدين دِينًا ، ذلك أن الدين وضْعٌ إلهي ، يُبين حُدود ما يسير عليه الناس ويلتزمونه في عقائدهم وعباداتهم ، وما يحِلُّ لهم أن يفعلوه وما يَحْرُمُ عليهم أن يفعلوه ، ولا سلطان عليه لعُرف أو توارُث أو نقْل ؛ حتى لو اتُّخذت أحكام الدين باعتبارها عُرفًا أو توارثًا لما كانت دِينًا ، وإنما تكون دينًا إذا أُخذت مُضافة إلى مَصدرها وهو الله ربُّ العالِمين.

الدِّين يُقِرُّ الصالح ويُحارب الفاسد:

والدين هو الحاكم على التقاليد، فما كان منها لا يُخِلُّ بشيء من أحكامه ولا يترتب عليه ضررٌ يأْباه الدين ، فإن الدين يُقره ويَسمح به ، وما كان منها يخلُّ بشيء من أحكامه أو يستبيح ضررًا أو فسادًا يأباه الدين ، فإنَّ الدين يُنكره ويُحاربه ، ولقد جاء الإسلام ـ وفي جميع البلاد التي دخلها تقاليدُ وصورٌ عملية في نواحي الاجتماع ـ فأقرَّ الصالح منها وحارب الفاسد ، وحقَّق تلاؤُمًا بين أهدافه وآثار التقاليد ، وكان الدين قوةً للتقاليد الطيبة الصالحة ، ومُطهِّرًا من التقاليد الخبيثة الفاسدة .

الدين يحثُّ على النهوض والرُّقِيِّ:

ومما يجب أن نعرفه هنا أن الإسلام أطلق لأتباعه حقَّ اختيار ما يرونه مُحقِّقًا لنهوضهم العلمي والاقتصادي والخُلقي والاجتماعي، ولم يُقيدْهم فيما وراء العقائد والعبادات والحلال والحرام بشيء يَمنعهم من التقدُّم والنهوض، وهو يُبيح لهم بل يُحَتِّمُ عليهم أن يسلكوا في هذا الجانب أحدث ما يُنتجه العقل البشري من صور المُجتمعات الفاضلة.

لابد من تنقية تقاليدنا:

-وليس من شكٍّ في أن جماعتنا ـ وهي إسلامية قبل كل شيء ـ نزعت في كثير من عصورها الماضية إلى كثير مِن التقاليد التي أنشأها العُرف، أو التي جرَّها إليهم تقليدُ الأمم المختلفة التي حكمتْها، واستغلت عقليتها وحياتها.

-وليس من شك في أن كثيرًا من هذه التقاليد لا يتَّفقُ وأحكام الإسلام فتقاليد الأفراح والمآتم والأعياد، وتقاليد طُرق التصوُّف وزيارة الأضْرِحة تقاليدُ يأْبَاهَا الدِّينُ. وقد امتَدَّتْ التقاليد إلى دائرة العقيدة والعبادة والحلال والحرام.

وإذنْ، فلابدَّ مِن تشخيص هذه التقاليد والنظر فيها من جهة مُوافقتها للدِّين أو مُخالفتها، ومن جهة ما تَغرسه في الأمة من خير أو شرٍّ، ثم نعمل على أخْذ الأمة إلى السبيل الذي يَحفظ لها شخصيتها الإسلامية أولًا، والذي ينهض بمستواها الاجتماعي نهوضًا يحفظ عليها كيانها وأخلاقها، وُيمهد لها سبيل السيْر في الكمال.

فإنْ كان هذا هو القصد من التطور فالدِّين لا يقف عند حدِّ إباحته بل يُوجبه ويُحتمه. وإنْ كان القصد مِن التطوُّر أن يدخل التغيير في الدوائر الدينية التي رسمها الإسلام، وبيَّن أحكامها فهذا ليس تطورًا في التقاليد، وإنما هو طيٌّ لصفحة الدين، وهو من تغليب التقاليد على الدِّين، وليس سيرًا بالتقاليد في جوِّ الدين.