الاجتهاد والتقليد ليس مشروعا في كل ما جاء به الإسلام.
-ففي العقائد وأصول الإيمان لا اجتهاد ولا تقليد.
-وفي العبادة لا اجتهاد فيها بزيادة أو نقصان ولا تقليد إلا عن علم.
-وفي ما وردت فيه النصوص من الأخلاق لا اجتهاد فيها ولا تقليد لكن في غيرها جائز.
-أما المعاملات الدنيوية فهي التي يجب فيها الاجتهاد والاستنباط من أولي الأمر ويجب فيها تقليدهم واتباعهم على سائر الناس.
يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:
ما جاء به الإسلام ينقسم إلى أقسام:
( أحدها )العقائد وأصول الإيمان ، وهي على قسمين :
-قسم يطالب القرآن بالبراهين العقلية عليه ، ويشترط فيه العلم اليقين ، وهو الإيمان بوحدانية الله تعالى وعلمه وقدرته ومشيئته وحكمته في نظام الخلق وتدبيره وببعثة الرسل.
-وقسم يأمر فيه بالتسليم بشرط أن لا يكون محالاً في نظر العقل كالإيمان بعالم الغيب من الملائكة والبعث والدار الآخرة.
( ثانيها ) عبادة الله تعالى بالذكر والفكر والأعمال التي تربي الروح والإرادةكالصلاة التي تذكر الإنسان بمراقبة الله تعالى , وترفع همته بمناجاته والاعتماد عليه حتى يكون شجاعًا كريمًا ، وكالزكاة التي تعطفه على أبناء جنسه وتعلمه الحياة الاشتراكية المعتدلة الاختيارية ، وكالصيام الذي يربي إرادته ويعوده على امتلاك نفسه بالتمرن على ترك مادة الحياة باختياره زمنًا معينًا مع الحاجة إليها , وتيسر تناولها بدون أن يلحقه لوم أو أذى , ويشعر الغني بالمساواة بينه وبين الفقراء ، وكالحج الذي يبعث في نفوس الأمة حب التعارف والتآلف بين الشعوب المختلفة , ويقوي فيها رابطة الاجتماع ، ويحيي في أرواح الشعوب الشعور بنشأة الدين الأولى بقصد مشاهدها ، والطوف في معاهدها والتآخي في مواقفها ،وبعلمهم المساواة بين الناس بتلك الأعمال المشتركة كالإحرام وغيره.
( ثالثها ) الآداب ومكارم الأخلاق وتزكية النفس بترك المحرمات وهي الشرور الضارة وتحري عمل الخير بقدر الطاقة.
(رابعها ) المعاملات الدنيوية بين أفراد الأمة ، أو بين الأمة وغيرها من الأمم ويدخل فيها الأمور السياسية والمدنية والقضائية والإدارية بأنواعها.
أما القسم الأول : فقد علمنا أن منه ما يؤخذ بالبرهان ، ومنه ما يؤخذ بالتسليم لما ورد في كتاب الله تعالى والسنة المتواترة القطعية ، وهو برهانه ، ولا يؤخذ فيه بأحاديث الآحاد وإن كانت صحيحة السند ؛ لأنها لا تفيد إلا الظن , والاعتقاد يطلب فيه اليقين بلا خلاف . فهذا القسم لا اجتهاد فيه بالمعنى الذي فسروا به الاجتهاد،ولا تقليد.
وأما القسم الثاني :فالواجب فيه على كل مسلم أن يأخذ ما ورد في الكتاب العزيز ، وما جرت به السنة في بيانه على طريقة القرآن من قرن كل عبادة ببيان فائدتها ، وهذا القسم ليس للمجتهدين أن يَزِيدُوا فيه ولا أن ينقصوا منه ؛ لأن الله تعالى قد أتمه وأكمله ، وهو لا يختلف باختلاف الزمان والعرف فيفوض إليهم التصرف فيه . ولا يسع أحدًا التقليد فيه أي الأخذ بآراء الناس ، بل يجب على العلماء أن يبلغوه للمتعلمين تبليغًا.
وأما القسم الثالث :فما ورد فيه من نص على حلال أو حرام فليس لمجتهد أن يغيره ، وقد أطلق القرآن الأمر بعمل الخير والمعروف ، والنهي عن الشر والمنكر وترك فهم ذلك لفطرة الناس , فيجب أن يلقن كل مسلم قوله تعالى : (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ ) (الزلزلة : 7-8 ) وأن يترك إلى اجتهاده تحديد الخير والشر مع بيان ما جاء فيه من التفصيل في الدين وهو قسمان :معلوم من الدين بالضرورة كخيرية الصدق والعفة والأمانة وشرية الزنا والسكر والقمار , وغير معلوم إلا للمشتغلين بالعلم كوجوب مساواة المرأة للرجل , والكافر للمسلم , والعبد للحر في الحقوق أمام العدل ، وكتحريم عضل
الولي – وان كان والدًا – موليته أي امتناعه عن تزويجها ممن يخطبها بغير عذر ؛ فالأول :لا اجتهاد فيه ولا تقليد ، والثاني : يجب أن يعرف تحريمه بدليله العام ككون كل نافع خيرًا , وكل إيذاء شرًّا وحرامًا , وبديله الخاص إن وجد ، وليس لأحد أن يقول في الإسلام : هذا حلال وهذا حرام , فيقلد ويؤخذ بقوله بدون دليل . وهذه الأمور كلها دينية محضة يتقرب بها إلى الله تعالى من حيث هي نافعة ومرتبة للناس فيجب أن يكون الناس فيها على بصيرة.
وأما القسم الرابع : وهو الذي لا يمكن أن تحدد جزئياته شريعة عامة دائمة لكثرتها ، ولاختلافها باختلاف الزمان والمكان ، والعرف والأحوال من القوة والضعف وغيرهما ، ولا يمكن لكل أحد من المكلفين أن يعرف هذه الأحكام , كما أنه لا يحتاج إليها كل واحد فهي التي يجب فيها الاجتهاد والاستنباط من أولي الأمر ويجب فيها تقليدهم واتباعهم على سائر الناس ، ولذلك لم يحدد الدين الإسلامي كيفية الحكومة الإسلامية ، ولم يبين للناس جزئيات أحكامها , وإنما وضع الأسس التي تُبْنى عليها من وجوب الشورى ، وحجية الإجماع الذي هو بمعنى مجلس النواب عند الأوربيين ، وتحري العدل والمساواة ، ومنع الضَرَر والضِرَار.
وقد حدثت أقضية للناس في زمن التنزيل منها ما نزل فيه قرآن ، ومنها ما حكم فيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بما أراه الله تعالى ؛ فكانت تلك القواعد العامة وهذه الأحكام نبراسًا لأولي الأمر الذين فوض الشارع إليهم وضع الأحكام باجتهادهم فهم في ضوئها يسيرون . فلك أن تسمي كل ما يضعونه شرعًا إذا وافق ذلك ؛ لأنهم مأذونون به من الشارع ، وقد بنوه على القواعد التي وضعها ، ولك أن تسميه قانونًا لأنه قواعد كلية ، وأحكام وضعية يمكن الرجوع عنها إذا اقتضت المصلحة ذلك ، فقد غير بعض الخلفاء الراشدين ما وضعه البعض ، بل أمر عمر – رضي الله تعالى عنه – في عام الرمادة أن لا يُحَدَّ سارق لاضطرار الناس بسبب المجاعة ، وكانوا لا يقيمون الحدود على المحاربين في زمن الحرب ، ومنه ترك سعد إقامة حد السكر على أبي محجن عندما أبلى في الفرس وأنقذ المسلمين بعدما كادوا يُغْلَبون ، كل ذلك لأجل المصلحة.