يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي
النظام الاقتصادي في الإسلام يقوم على أساس محاربة الربا ، واعتباره من كبائر الذنوب التي تمحق البركة من الفرد والمجتمع ، وتوجب البلاء في الدنيا والآخرة نص على ذلك الكتاب والسنة ، وأجمعت عليه الأمة ، وحسبنا أن نقرأ في ذلك قول الله تعالى : ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ، والله لا يحب كل كفار أثيم ) البقرة : 276. وقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) البقرة : 278-279.
وقول رسول الله ﷺ : ” إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله ” رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد ..
وسنة الإسلام في تشريعاته وتوجيهاته أن يأمر المسلم بمقاومة المعصية ، فإن لم يستطع كف يده – على الأقل – عن المشاركة فيها بقول أو فعل ، ومن ثم حرم كل مظهر من ظاهر التعاون على الإثم والعدوان ، وجعل كل معين على معصية شريكًا في الإثم لفاعلها ، سواء أكانت إعانة بجهد مادي أم أدبي ، عملي أم قولي .
ففي جريمة القتل يقول الرسول ﷺ : ” لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار ” رواه الترمذي وحسنه .
وفي الخمر يقول ﷺ : ” لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ” رواه أبو داود وابن ماجة .
وفي جريمة الرشوة يلعن الرسول ﷺ : ” الراشي والمرتشي والرائش – وهو الساعي بينهما ” – كما روى ابن حبان والحاكم .
وفي الربا يروي جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ : ” لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه ” – وقال : ” هم سواء ” رواه مسلم ، ويروي ابن مسعود أن النبي ﷺ : ” لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه ” رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي. وصححه وأخرجه ابن حبان والحاكم وصححاه،ورواه النسائي بلفظ (آكل الربا ومؤكله وشاهداه – إذا علموا ذلك – ملعونون على لسان محمد ﷺ إلى يوم القيامة .
وهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة هي التي تعذب ضمائر المتدينين الذين يعملون في مصارف أو شركات لا يخلو عملهم فيها من المشاركة في كتابة الربا وفوائد الربا .
غير أن وضع الربا لم يعد يتعلق بموظف في بنك أو كاتب في شركة ، إنه يدخل في تركيب نظامنا الاقتصادي وجهازنا المالي كله ، وأصبح البلاء به عامًا كما تنبأ رسول الله : ” ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره ” رواه أبو داود وابن ماجة .
ومثل هذا الوضع لا يغير فيه ولا ينقص منه امتناع موظف عن تسلم عمله في بنك أو شركة ، وإنما يغيره اقتناع الشعب – الذي أصبح أمره بيده وحكمه لنفسه – بفساد هذا النظام المنقول عن الرأسمالية المستغلة ، ومحاولة تغييره بالتدرج والأناة ، حتى لا تحدث هزة اقتصادية تجلب الكوارث على البلاد والعباد ، والإسلام لا يأبى هذا التدرج في علاج هذه المشكلة الخطيرة ، فقد سار على هذه السنة في تحريم الربا ابتداء كما سار عليها في تحريم الخمر وغيرها .
والمهم هو الاقتناع والإرادة ، وإذا صدق العزم وضح السبيل .
وعلى كل مسلم غيور أن يعمل بقلبه ولسانه وطاقته بالوسائل المشروعة لتطوير نظامنا الاقتصادي ، حتى يتفق وتعاليم الإسلام ، وليس هذا ببعيد ، ففي العالم دول تعد بمئات الملايين لا تأخذ بنظام الربا ، تلك هي الدول الشيوعية .
ولو أننا حظرنا على كل مسلم أن يشتغل في البنوك لكانت النتيجة أن يسيطر غير المسلمين من يهود وغيرهم على أعمال البنوك وما شاكلها ، وفي هذا على الإسلام وأهله ما فيه .
على أن أعمال البنوك ليست كلها ربوية فأكثرها حلال طيب لا حرمة فيه ، مثل السمسرة والإيداع وغيرها ، وأقل أعمالها هو الحرام ، فلا بأس أن يقبله المسلم – وإن لم يرض عنه – حتى يتغير هذا الوضع المالي إلى وضع يرضي دينه وضميره ، على أن يكون في أثناء ذلك متقنًا عمله مؤديًا واجبًا نحو نفسه وربه ، وأمته منتظرًا المثوبة على حسن نيته ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) .
وقبل أن نختم فتوانا هذه لا ننسى ضرورة العيش ، أو الحاجة التي تنزل – عند الفقهاء – منزلة الضرورة ، تلك التي تفرض على المسلم قبول هذا العمل كوسيلة للتعيش والارتزاق والله تعالى يقول : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) .
على أن لا يكون العمل في البنك الربوي وظيفة ثابتة للمسلم ويبقى فيها بل تكون مرحلة مؤقتة عند الحاجة والضرورة القصوى حتى يجد عملا آخر قال تعالى: ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب ) والله عليم بذات الصدور.