يقول فضيلة الشيخ عطية صقر -رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقًا :ـ
هذا الحديث رواه البخاري ومسلم، ويجب أن نعلم أن حظوظ الناس في الحياة متفاوتة، والله وحده مالك الأمر كلِّه، يُعطي من يشاء، ويمنع ما يشاء عمَّن يشاء، قال تعالى: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير) (سورة آل عمران : 26).
وقال تعالى :ـ (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةِ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) (الزخرف : 32)
وهذا التفاوت في الحظوظ لحِكْمة جاء بيانها في مثل قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ) (سورة الأنعام : 165) ولا يشترط أن يكون هذا التفضيل تكريمًا من الله لهم، فكم من كفار وعُصاة يتقلَّبون في الثراء ليزدادوا به كُفرًا وطُغيانًا، قال تعالى: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (سورة آل عمران: 196، 197).
ومِنح الله لعباده قد تكون بمحض قدرته واختياره دون أن يكون لأحد فيها تدخُّل بوجه من الوجوه كالجمال الذي يُولد به الإنسان ولا يد له فيه، وكالثراء الوارد عن طريق الميراث أو طريقٍ لم يبذل فيه صاحبُه أيَّ جَهْدٍ، وقد تكون هذه المِنَح نتيجة جهدٍ وعملٍ كالَّتي تأتي عن طريق الكسب التِّجاري والصناعي وما شَاكَلَهُ.
والطبيعة البشرية نزاعةٌ إلى حُب المال والجمال ومُتَعِ الحياة ، ولكن ما كلُّ ما يتمنى المرء يدركه ، وكثير من الناس ينظرون إلى ما فَضَّلَ الله به الآخرين عليهم نظرة الحَسْرة والألم، ويتمنى بعضهم أن تزول هذه النعمة عن أصحابها ليتساووا جميعًا في الفقر والضعف والحاجة، وهذا هو الحسد المذموم الذي يورث صاحبه هَمًّا لا يفارقه. وقلقًا لا يترك له فرصة يستريح فيها باله وتهدأ أعصابه، وقد يتورط في أعمال غير كريمة لينال بها من هذا الذي فَضَّله الله عليه، وقد ذَمَّ الدِّينُ هذا الخُلُق، وجاء في الحديث أنه يَأْكُلُ الحسنات كما تأكل النار الحَطب. رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي.
وقد يكون هناك بعضُ الناس الَّذِين لم ينالوا حظًّا من مُتع الحياة يتمنون أن يكون لهم مثل ما لغيرهم، ويسعى بعضهم جاهدًا لإدراك ما يتمنى. وقد يرتكب بعضهم في سبيل ذلك ما لا يوافق عليه شرع ولا خُلُق.
والحديث الذي نحن بصدده يرسم لنا الدواء الذي به تستريح النفس إزاء هذه الفوارق التي فضَّل بها الله بعض الناس على بعض، فيرشد كلَّ عاقل إلى أنه لو تطلعت نفسه إلى ما مُنِحَ غيره من مال وخَلْق، أي غني وجمال وقوة أو غير ذلك من مُتع الدنيا ، فجدير به أن ينظر إلى من هو أقل منه في هذه الأمور، حتى يُحس بأن الله أنعم عليه بما لم ينعم به على غيره، وهنا تهدأ نفسه ، ويقنع بما عنده، ويكون هنا مجالٌ لشُكر الله عليها، وهذا ما يشير إليه قول النبي ـ ﷺ ـ يما رواه مسلم “انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدرُ ألا تزدروا نعمة الله عليكم” . والإحساس بنعمة الله مهما صغرت وشُكْرُه عليها وسيلة من وسائل رضوان الله وحِفْظ النعمة وزيادتها، وعلى النقيض من ذلك يكون ازدراؤها والاستهانة بها موجبًا لغضب الله وانتقامه في العاجل أو الآجل، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد) (سورة إبراهيم : 7).
وقد جاء في الهدي الإسلامي أن الإنسان إذا أراد أن يتنافس مع غيره فليكن التنافس في مجال الخير والفضائل والكمالات، مُستخدمًا في ذلك ما منحه الله من مال وصحة ولو كان بقدر ضئيل ، وهو ما يشير إليه قول النبي ـ ﷺ ـ “لا حسد إلا في اثنتين” والمراد لا ينبغي أن تكون هناك غِبطة وتنافس واهتمام إلا في هاتين الخَصْلَتين “رجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحِكْمَة فهو يقضي بها ويعلِّمها للناس” رواه البخاري ومسلم.
أما التنافس الدنيوي المَحْض فهو مذموم، ذلك أن متاع الحياة الدنيا لا تشبع منه النفس الإنسانية، وهي حقيقة مُقررة أشار إليها قول النبي ـ ﷺ ـ “لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثًا لهما، ولا يملأ عينَ ابن آدمَ إلا الترابُ” رواه البخاري ومسلم.
وقد وجَّه الله نبيه، وهو توجيه لأمته أيضًا أن يكون الاهتمام بالكمال الأدبي والديني أشد من الاهتمام بالكمال المادي الدنيوي الذي يلهي ويضُر، قال تعالى: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِه أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَة الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيِه وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (سورة طه 131) وقال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً) (سورة الكهف : 46) وقال: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخْرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى) (سورة النساء : 77) .
والإيمان بقَدَرِ الله والرضا بعطائه يُهَوِّن عَلَى النَّفْسِ متاعبها وآلامها، جاء في الحديث الشريف “إنَّ روح القدس نَفَثَ في روعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجْمِلُوا في الطلب، ولا يحملنَّكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله لا يُنال ما عنده إلا بطاعته” رواه ابن حبان وابن ماجه والحاكم وغيرهم بألفاظ متقاربة.
والنبي ـ ﷺ ـ قد حذَّرنا من الاهتمام بالدنيا الذي يصرف عن الآخرة فقال: “من كانت الآخرةُ أكبر هَمِّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له” رواه الترمذي وابن حبان وابن ماجه وغيرهم.
وقد كان السلف الصالح يتنافسون في البر، كما حدث عن عثمان وأبي بكر وعمر في تمويل جيش العُسْرَة، وكما حدث من عبد الرحمن بن عوْف وغيره من الأعمال الخيرية الكثيرة، التي لم يُلههم عنها ما جمعوه من مال.
لكن ليس معنى هذا أن الله يصرف الناس عن الكَسْب ويحرمهم مُتع الدنيا، فهو القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا) (سورة المائدة: 87) وقال النبي: “نِعْمَ المال الصالح للعبد الصالح” رواه أحمد بسند جيد وقال “الدُّنيا حُلوة خَضِرَة، فمن أخذها بحقها بارك الله له فيها” رواه الطبراني بإسناد حسن.
فلنملأنَّ قلوبنا بالإيمان، ولنجعل المعاني الأدبية أكبر همِّنا، ولنعمل جاهدين لرفع مستوانا، ولنوجه طاقاتنا إلى خير الدين والدنيا.