السعادة والشقاء في الدنيا :

الحياة بين السعادة والشقاء في الدنيا في آيتين في كتاب الله.
فمن أراد السعادة فقد قال الله تعالى:
( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).

ومن أراد الشقاء فقد قال الله تعالى :
( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ۝ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ۝ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ).

أسباب الشقاء في الدنيا :

يقول فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر رحمه الله :

يلاحظ الدارس لمجتمعاتنا أن الشكوى كثيرة شائعة، وأن عددًا كبيرًا من الناس يتحدثون بأنهم أشقياء في حياتهم، وأنهم لم يذوقوا للسعادة طعمًا، حتى قال بعض الكاتبين: إن بلادنا هذه من حقها أن تُسمَّى “بلاد الشكوى”، وقد يكون هناك حقيقة من فاضت به كؤوس مصائبه وشقائه، فحقَّ له أن يُعد نفسه غير سعيد، أو يُقرر أنه شقي، ولكن المُلاحَظ كذلك أن كثيرين يعدون أنفسهم أشقياء، ولو أنهم تبصروا الحقائق وواجهوها لما عدُّوا أنفسهم كذلك.

ولا ريب أننا إذا عَرَفْنَا العِلة وشَخَّصْنَاهَا، ووقفنا على أسبابها، تيسَّر لنا علاجها وإزالتها، وفي اعتقادي أنَّ أوَّل داعٍ من دواعي هذه الشكوى، وأول سبب من أسباب هذا الشقاء الذي يتحدثون عنه:

أولا : ضعف الأيمان والصلة بين العبد وربه :

و ضعف الإيمان بالله ـ جلَّ وعلا ـ وضعف التوكل عليه والثقة به، وضعف الصلة الروحية بين الإنسان وخالق الإنسان….. ولو ارتبط المرء بخالقه ارتباطًا قويًّا عميقًا عن طريق الإيمان والاعتماد والرجاء والمناجاة والمراقبة، لرأى المؤمن نفسه وحياته فيوضًا من الجمال والرحمة، تغمر ما قد يظهر في الحياة من مُعَكِّرَات أو مُنغصات والحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق:2 ـ3).

ثانيا : الوهم الكاذب المسيطر على الناس :

ومن أسباب الشقاء أيضًا ذلك الوهم الكاذب المُسيطر على عقول الكثيرين وأرواحهم. يكون الواحد منهم سعيدًا مُكفيًّا في حاضره، فيأبى التمتع الطيب الطاهر المُطمئن بما هو فيه، بل يذهب مُفكرًا في المستقبل، والغيب شيء استأثر الله بعلمه، ويتساءل المرء ليُنَغِصَّ على نفسه بنفسه حياته: هل سأكون كذلك في المستقبل؟. ألا تُدبر الدنيا بعد إقبال؟. ألا ينتظرني بلاء أو شقاء؟….وهكذا يظل في بَلْبَاله وزلزاله وتصوراته الوهمية، حتى تتراكم سُحب القلق في سمائه، فلا هو انتفع بما في يده، ولا هو استطاع أن يخترق حُجُبَ الغيب؛ وذلك من ضلال الرأي وسوء التصرف… ولو أنه حَمِدَ ربه عَلَى مَا سَاقَ إليه اليوم مِن نِعْمَةٍ، وتمتع بها كما أمر، وبذل جهده كما أرشد، لَمَا ضاعت عليه فرصة اليوم، ولا تعب عقله من التفكير في الغد.

ثالثا : محاولة تطهير الدنيا من الشر نهائيا :

ومن أسباب الشقاء أيضًا محاولة تطهير الدنيا من الشر نهائيًّا، مع أن ذلك غير مُمكن، وقد فطر الله هذا الكون على أن يطوي بين جوانبه خير الأخيار وشر الأشرار؛ ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى… كما أنه سبحانه جَعَلَ من دقيق نظامه، وعميق حكمته، أن يَبْلوَ الإنسان بالخير والشر، والنعمة والنقمة، لكي يشكر الإنسان حينما تأتيه النعمة، ولكي يصبر حينما تُساق إليه النقمة، فينال الرضا والرضوان، ولو أنه استمتع بالنعمة وحدها، وكفر عند الابتلاء، لاستوجب لنفسه الشقاء: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُم إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم:7)….

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة:155ـ 157).

رابعا : الضيق السريع عند الأزمات الخفيفة :

ومن أسباب الشقاء ذلك الضِّيق السريع بالأزمات الخفيفة، وعدم علاجها بسرعة، أو عدم التبصر في مأْتاها للخروج منها، وهذا يدل على قلة الحزم وضعف العزيمة وضيق الأفق، ولو أن الإنسان عوَّد نفسه إذا وقع في حرج أو مأزق عارض، أن يحفظ اتزانه وهدوءه، وأن يُقبل على التخلص مما تعَرَّضَ له، وفي سرعة ودقة واطمئنان، لما تراكمت عليه الهموم، فأثقلت كاهله حتى ينُوء بحملها، فلا يستطيع الخلاص منها…ولقد كان السلف الصالح في أوقات الشدة يهتفون: “الغَمَرَات ثم يَنْجَلِينَا” أي تأتي الشدائد فنلقاها ونصبر لها، ونعمل على التخلُّص منها، حتى تزول وتنجلي، وذلك أسلوب أُولي العزم من الرجال.

خامسا : سرعة اليأس :

وقد يتصل بهذه الناحية سرعة اليأس، وهذا أخطر داء يُصاب به الإنسان في الحياة؛ لأنه لا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة. والتنزيل المجيد يقول: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:87)، ويقول: (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (الزمر:53)، ويقول: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّون) (الحجر:56)

سادسا : عدم تذكر نعم الله عليه :

ومن أسباب الشقاء عدم تذكر النعم الكثيرة بجوار المتاعب القليلة، ولو تذكر الإنسان هذه النعم حينذاك لهانت عليه تلك المتاعب، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ولكن الإنسان ذو طمع، ولو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لتمنَّى معه الثاني، ولو كان معه الثاني لتمنَّى معه الثالث، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، كما يقول رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، إن الإنسان ليصنع الشقاء لنفسه أحيانًا، بل يبلغ السفه بالبعض إذا لم يجد في دنياه شقاء أن يبحث عنه، وذلك مِن سوء تصرفه وتخليط عقله، ولو آمن المرء بربه، واعتمد عليه، وبذل جهده، واحتمل ما يُساق إليه، وتطلَّع إلى الوجود بعين الأمل والرجاء، لعاش عِيشةَ السعداء.