إن كانت الشريعة الإسلامية أعطت الرجل حق الطلاق حيث من المفترض أن يكون هو أكثر حرصا على استمرار الحياة الزوجية، وأبعد عن العاطفة والانفعال التي ربما تدمر البيت في وتهدمه في أي لحظة، غير أن الشريعة لم تسلب المرأة هذا الحق مطلقا ، فأجازت لها طلب الطلاق للضرر، وطلب الخلع والتنازل عن المهر حتى ولولم يكن هناك ضرر مادي ملموس.. .
يقول فضيلة الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي-رحمه الله تعالى- :
هكذا وضع هؤلاء الإسلام في قفص الاتهام، وحكموا عليه، دون أن يسألوه رأيه، أو يحاولوا معرفة حكمه من مصادره اليقينية : القرآن والسنة الصحيحة، ودون أن يفقهوا نظرة الإسلام إلى الزواج في إنشائه واستمراره وإنهائه، إن قضت الظروف بإنهائه.
إن الزواج في شريعة الإسلام عهد متين، وميثاق غليظ ربط الله به بين رجل وامرأة، أصبح كلاهما يسمى به ” زوجًا ” بعد أن كان ” فردًا . هو في العدد ” فرد “، وفي ميزان الحقيقة ” زوج ” ؛ لأنه يمثل الآخر، ويحمل في حناياه آلامه وآماله معًا.
رباط أقامه الله على ركائز من السكن والمودة والرحمة، وجعله آية من آياته في كونه كخلق الإنسان من تراب، وخلق السموات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان، وقد صور القرآن مدى هذا الرباط بين الزوجين فقال : ” هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ” وفي هذه العبارة ما فيها من الإيحاء بمعاني الستر والوقاية والزينة والدفء، يحققها كل منهما لصاحبه.
هذا الرباط الوثيق الذي نسجت خيوطه بعد بحث وتعب، وتعرف وخطبة، ومهر وزفاف وإعلان – ليس من اليسير على شريعة حكيمة أن تتهاون في نقضه وحل عقدته، وفصم عراه، لأدنى مناسبة، وأوهى سبب، يدعيه الرجل، أو تزعمه المرأة.
نعم أباح الإسلام للرجل الطلاق علاجًا لا مفر منه، حين يضيق الخناق، وتستحكم حلقات الأزمة بين الزوجين – وآخر العلاج الكي كما قيل – غير أنه لم يبح له هذا إلا بعد أن يجرب وسائل العلاج الأخرى، من وعظ وهجر وتأديب وتحكيم، وبعد أن يستنفد طاقته النفسية في احتمال ما يكره، والصبر على ما لا يحب، ممتثلاً قول الله تعالى : ” فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئَا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا ” (النساء : 19). وقول رسوله : ” لا يفرك – أي لا يبغض – مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقًا رضي منها آخر “.
لم تجعل الشريعة الطلاق حقًا للرجل مطلقًا من كل قيد ،بل قيدته في الوقت بأن يكون في طهر لم يمسس زوجته فيه، فلا يكون الطلاق مشروعًا حسب السنة في وقت حيضة الزوجة، أو في الطهر الذي اتصل بها فيه الاتصال الخاص.
وقيدته بتوفر النية والعزم ” إنما الطلاق عن وطر ” ” وإن عزموا الطلاق “، فلا طلاق في إغلاق – غضب شديد أو إكراه – ولا طلاق لقاصد الحلف بالطلاق ؛ لأن الحلف بغير الله مردود على صاحبه .
وقيدته بوجود الحاجة الشديدة إليه، وكان من التوجيهات النبوية : ” أبغض الحلال إلى الله الطلاق “، ” لا تطلقوا النساء من غير ريبة “.
وجعلت الطلاق من غير ريبة ولا حاجة داعية مكروها أو محرمًا ؛ لأنه ضرر بنفسه وبزوجته وإعدام للمصلحة الحاصلة بينهما من غير حاجة إليه، فكان حرامًا كإتلاف المال، ولقول النبي -ﷺ- : ” لا ضرر ولا ضرار ” (المغني لابن قدامة 7/97).
ولم تترك الشريعة الرجل بعد الطلاق دون غرم يؤوده ويثقل كاهله، ويخوفه عاقبة عمله، فهناك دفع الصداق المتأخر، والنفقة الواجبة في العدة، وأجرة رضاع الأولاد، ونفقتهم حتى يكبروا، وهناك متعة الطلاق المندوبة عند الأكثرين، والواجبة عند بعض الأئمة من الصحابة والتابعين، كعلي بن أبي طالب، وإبراهيم النخعي وابن شهاب الزهري، وأبي قلابة والحسن وسعيد بن جبير (المحلى لابن حزم 10 /247). فقد قالوا جميعًا : لكل مطلقة متعة . وحجتهم عموم قوله تعالى : ” وللمطلقات متاع بالمعروف حقًا على المتقين ” (البقرة 241) ولم يحدد القرآن هذه المتعة، بل جعلها متاعًا ” بالمعروف ” والمعروف هنا ما تعرفه الفطر السليمة، ويقره العرف الناضج، ويرضاه أهل العلم والدين، وهو يختلف باختلاف الزمن والبيئة، وحال الزوج، وهكذا رأى الحسن وعطاء أن الله لم يجعل للمتعة حدًا معينًا، بل تركها لميسرة الرجل كما قال تعالى : ” على الموسع قدره وعلى المقتر قدره “.(البقرة : 236).
وإذا كانت شريعة الإسلام قد جعلت للرجل حق إنهاء الحياة الزوجية المنكودة بالطلاق – مع القيود التي ذكرناها – فهل فرضت على المرأة أن ترضى بوضعها في بيت زوجها أبد الدهر، مهما يكن قاسيًا غشومًا ظلومًا، ومهما انطوى قلبها على الكره له والضيق به والسخط عليه ؟!.
أظن شريعة جعلت للمرأة حقًا ثابتًا في تزويج نفسها، وقال قرآنها في شأن النساء . ” فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ” (البقرة : 234) . ولم تحل لأب أو جد – مهما حصف رأيه وحنا قلبه – أن يخط لابنته مصيرها بغير اختيارها وإبداء رأيها، حتى البكر العذراء الحيية لابد أن تستأذن، وأن تعبر عن إذنها ولو بالصمت، وروت كتب السنة أمثلة رد فيها النبي -ﷺ- زواج فتيات أجبرهن آباؤهن على التزوج بمن لا يرضين – أظن شريعة هذا سبيلها في بدء الحياة الزوجية كيف يتصور أن تفرض بقاء امرأة مع رجل لا تحبه، بل لا تطيقه بغضًا ؟ وقد قيل : إن من أعظم البلايا مصاحبة من لا يوافقك ولا يفارقك . وقال المتنبي :
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بد.
وقال :
واحتمال الأذى ورؤية جانيـ ـه غذاء تضوي به الأجسام.
كلا .. لقد جعلت الشريعة الإسلامية للزوجة الكارهة مخرجًا من الحياة مع زوج تنفر منه، وتنأى بجانبها عنه، فإذا كانت الكراهية من قبلها، وكانت هي الراغبة وحدها في الفراق، كان مخرجها ما عرف في لسان الفقهاء باسم ” الخلع“.
غير أن الشريعة كما أمرت الرجل أن يصبر ويحتمل ويضغط على عاطفته، ولا يلجأ إلى أبغض الحلال إلا عند إلحاح الحاجة – حذرت المرأة هي الأخرى من التسرع بطلب الطلاق أو الخلع.
وفى الحديث : ” أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة ” رواه أبو داود، ” المختلعات والمنتزعات هن المنافقات ” رواه أحمد، والحديث يعني طالبات الخلع من غير ما بأس كما في الحديث السابق، أما الكارهات النافرات اللاتي يخفن أن تدفعهن الكراهية إلى إهمال حدود الله في الزوجية فلهن أن يشترين حريتهن برد ما بذل الرجال لهن من مهر أو هدية.
قال ابن قدامة في ” المغني ” : (إن المرأة إذا كرهت زوجها لخلقه أو خلقه أو دينه أو كبره أو ضعفه أو نحو ذلك وخشيت ألا تؤدي حق الله في طاعته جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه ؛ لقول الله تعالى : ” فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ” (البقرة : 229) وفي حديث رواه البخاري، قال : جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي -ﷺ- فقالت يا رسول الله : ما أنقم عليه في خلق ولا دين إلا أني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله -ﷺ- : ” أتردين عليه حديقته ؟ ” فقالت : نعم، فردتها عليه، وأمره ففارقها . وفي رواية : فقال له : ” اقبل الحديقة وطلقها تطليقة …… “.
إذا ثبت هذا، فإن هذا يسمى خلعًا، لأن المرأة تنخلع من لباس زوجها، قال الله تعالى : ” هن لباس لكم وأنتم لباس لهن “، ويسمى افتداء، لأنها تفتدي نفسها بمال تبذله قال تعالى : ” فلا جناح عليهما فيما افتدت به ” ). (المغني 7/51، 52).
ومن عجب أن الإسلام ضيق على الرجال في إيقاع الطلاق، وحدده بجملة حدود وربطه بمجموعة من القيود في وقته وكيفيته وعدده تضييقًا لدائرته، ولكنه أوسع للمرأة في الخلع فالطلاق في أثناء الحيض والطهر الذي مسها فيه بدعة أو باطل، ولكن الخلع في هذه الحالة – كما قال ابن قدامة – لا بأس به في الحيض والطهر الذي أصابها فيه ؛ لأن المنع من الحيض من أجل الضرر الذي يلحقها بطول العدة، والخلع لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والمقام مع من تكرهه وتبغضه، وذلك أعظم من ضرر طول العدة، فجاز دفع أعلاهما بأدناهما . ولذلك لم يسأل النبي -ﷺ- المختلعة عن حالها، لأن ضرر تطويل العدة عليها، والخلع يحصل بسؤالها، فيكون ذلك رضاء به ودليلا على رجحان مصلحتها فيه. (انظر المغني 7/ 51، 52).
وعلى هذا فإذا ساءت العشرة بين الزوجين، وكانت المرأة هي النافرة الكارهة، وأبى زوجها أن يطلقها، فلها أن تعرض عليه الخلع، وترد عليه ما أخذته منه، ولا ينبغي أن يزداد، فإن قبل فقد حلت العقدة ويغني الله كلا من سعته.
وبعض الفقهاء يشترطون رفع ذلك إلى الحاكم، وبعضهم لا يشرطون، أما إذا رفض الزوج، وأصر على مضايقتها وإكراهها على الحياة في كنفه فللقاضي المسلم أن ينظر في الأمر ويستوثق من حقيقة عاطفتها وصدق كراهيتها، ثم يجبر الزوج على قبول العوض، ويحكم بينهما (سواء اعتبر هذا التفريق فسخًا أم طلاقًا بائنًا على اختلاف المذاهب ) غير أنه لا يحل للرجل أن يضار المرأة، ويضيق عليها لتفتدي نفسها منه، مادام هو الذي يكرهها، ويريد استبدال غيرها بها قال تعالى : ” وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا “. (النساء : 20).
فهل تريد المرأة نصفة أكثر من هذا ؟ إن الزوج يكره، فيطلق، فيضيع عليه ما أنفق من قبل، ويلزم بالنفقة والمتعة من بعد، فهل تريد المرأة أن تكرهه فيطلقها الزوج الذي قد يكون محبًا لها، ليزداد غرمًا على غرم : غرم الفراق على كره، وغرم النفقة – فيجمع بين الحشف وسوء الكيلة، كما قال العرب، أو بين الموت وخراب الديار كما تقوله العامة.
إذا رفضت المرأة أن تفدي نفسها من الزوج الذي لا تطيقه بغضًا، وأصرت على أن يفارقها دون تضحية منها، فهل يلام الرجل إذا دعاها باسم القانون وسلطان الشرع إلى بيت الزوجية أو ” بيت الطاعة ” ؟.
إن كل حق يقابله واجب، وكل واجب يقابله حق، وقد أعطى الإسلام الرجل حق الطلاق بإزاء ما كلفه من واجبات المهر والنفقة قبل الطلاق، وتبعات بالنفقة والمتعة بعد الطلاق فضلا عن الأسباب الفطرية التي تجعل الرجل أبصر بالعواقب وأكثر حكمة وأناة.
وليس من العدالة أن تعطى المرأة حق التخلي عن الزوج وهدم الحياة الزوجية والإتيان على بيتها من القواعد، دون أن تتكلف شيئَا يهون على الرجل خطبه في فراقها، ويسهل عليه مهمة البحث عن غيرها، وهي في الواقع لا تتكلف شيئَا غير ما بذله الرجل من قبل مهرًا قل أو كثر وهدايا ثمينة أو رخيصة . هذا إذا هبت ريح البغض من قبل المرأة.
أما إذا كان الشقاق من الطرفين، وكانت الكراهية متبادلة بينهما، ولم يطلق الرجل فهناك مخلص آخر للمرأة عن طريق الحكمين، أو ” المجلس العائلي ” الذي قال الله في شأنه : ” وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها ” (النساء 35) الآية وهذا بناء على أنهما حاكمان يملكان التفريق والتجميع، كما هو قول أهل المدينة ومالك وأحمد في إحدى روايتيه، والشافعي في أحد قوليه .
قال ابن القيم : (وهذا هو الصحيح، والعجب كل العجب ممن يقول : هما وكيلان لا حاكمان، والله تعالى قد نصبهما حكمين وجعل نصبهما إلى غير الزوجين… إلى أن قال : وبعث عثمان بن عفان ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم حكمين بين عقيل بن أبي طالب وامرأته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة، فقال لهما : إن رأيتما أن تفرقا فرقتما . وصح عن على بن أبي طالب مثله، قال : فهذا عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم جعلوا الحكم إلى الحكمين، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف ).(انظر : زاد المعاد 4/ 33، 34 فصل ” في الشقاق يقع بين الزوجين “).