صحيح لم ترد كلمة الضمير في القرآن بعينها، ولكن الإسلام أحيى في القلوب الإيمان ، وقوى فيها الرابط الذي يستطيع به أن يبتعد عن الجريمة، ويقترب من الله تعالى .
يقول فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر رحمه الله:
الإسلام دين يقوم على تربية الضمير في نفس المسلم، وإن لم ترد لفظة “الضمير” بعينها وذاتها في القرآن. ذلك بأن الضمير كلمة تدل على الغيبة والستر، فيُقال: أضْمَرَ الإنسان في نفسه شيئًا، إذا أخفاه وطواه، ويُراد بالضمير الحي في المجال الخلقي أن يستشعر الإنسان ـ في نفسه وفي أعماقه ـ قوة معنوية تَصُدُّه عن العمل القبيح، وتُحَرِّضُهُ على التصرف الحميد، وهذه القوة هي التي يُعَبِّر عنها في الإسلام بالخوف من الله، أو خشيته بالغيب، أو مُحاسبة النفس، أو مُراقبة الخالق، وهذه أمور استفاض الحديث عنها في الإسلام بصورة أخاذة رائعة، في القرآن وفي غير القرآن.
وقال العلماء إن كلمة “المسلم” نفسها تُؤدي معنى كلمة “الضمير“؛ لأن قول الإنسان: أنا مسلم، معناه: أسلمتُ نفسي لله، أي أسلمت له ضميري، وباطني وظاهري، أي صرتَ عبدًا خالصًا له: (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) (الزمر:2 ـ 3). والقرآن يقول: (إِنْ كُلُّ نَفْس ٍلَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) (الطارق:4) وقد فسروا “الحافظ” هنا بالرقيب، وقال بعضهم: إن المراد بالرقيب هنا هو الضمير.
وفي القرآن الكريم هذه الآيات قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِْذ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق16 ـ18). وقال تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) (يونس:61). وهذه الآيات، وأشباهها كثير، تنص على وجود هذه الرقابة الحكيمة الواسعة.
ولو تبصرنا لعرفنا أن أساس الضمير ودعامته هو الإيمان بإله مُسيْطِرقادر، حفيظ على كل شيء قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11) مُطَّلِع على ما تُكِنُّه الضمائر والسرائر قال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19)، وقال تعالى: (وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)(النمل:25)، وقال تعالى: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (طه:7)، وقال تعالى: (إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (الأحزاب:54). محاسب على الكبائر والصغائر قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) (الزلزلة:7 ـ8)، وقال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47).
وإنما يُوجد الضمير الحق عند الإيمان بالله مالك الملك؛ لأن الله جل جلاله مُطلع على كل شيء قال تعالى: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنَ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم:38)، وقال تعالى: (سَوَاء مِنْكُمْ مِنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) (الرعد:10).
وإذا أيقن الإنسان باطلاع الله على حركاته وسَكَناته، وعلمه بخفِيِّ أمره وجليِّه، أدرك أن الله معه حيثما كان قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ) (الحديد:4)، فاستحيا من الله المُرافق له، الرقيب عليه، القريب منه، فخشيه بالغيب، وخافه على كل حال، ففاز بالخير في أولاه وأخراه قال تعالى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَع َالذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرُهْ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (يس:11)، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَونَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَرِيمٌ . وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:12ـ14).
ومتى تحققت هذه الخشية تَحَقَّق الضمير الإسلامي المصاحب الدائم، الذي لا يخون ، والذي يبلغ بصاحبه الإحسان، وهي أعلى مراتب العبادة في الإسلام، وقد عبَّر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن هذا الإحسان بما نفهم منه أنه سيطرة الضمير الديني على صاحبه، حتى لا يدعه يهفو أو يغفو، فيقول ﷺ: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ولقد سأل رجل النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: كيف يُزكِّي المرء نفسه ويُصَفِّيهَا؟ فأجابه: “أن يعلم أن الله معه حيثما كان” . وفي رواية أخرى: قال ﷺ”إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت.
وهذا أحد حكماء الإسلام يقول: “إن أكبر مقومات الضمير هو الاعتقاد بإله قادر، يُحاسب على الكبائر والصغائر، ويطلع على ما تكنه السرائر، وبحياة بعد هذه الحياة، يُثاب أو يُعاقب فيها الإنسان على ما قدمت يداه، فكل تربية وكل تعليم لا يُغنيان عن صاحبهما شيئًا ما دام ضميره مقفرًا من هاتين العقيدتين، وهذا هو المُشاهد المُحَسُّ، فإن الناس في أيام جهالتهم، وعدم انتشار التعليم فيهم، كانوا بفضل هاتين العقيدتين أفضل حالًا، وأقوم أخلاقًا مما هم عليه اليوم، بذلك كل من اطلع على التاريخ ودرس أحوال الأمم في أدوارها المختلفة”.
الضمير هو المراقبة من الأعماق لأفعال الإنسان:
والمراقبة لله من الداخل وفي الأعماق هي التي تُحسن قيادة الأعضاء والأطراف، فلا يكون من الإنسان ما يسوء أو يُعاب في تصرفاته أو حركاته، ولذلك قال ابن مسروق الطوسي: “مَن رَاقَبَ اللهَ في خَطَرَاتِ قَلْبِهِ، عَصَمَهُ الله في حركات جوارحه”، وحيثما كانت هذه المراقبة متحققة في أبناء الإسلام كان الحياء من الله يُسيطر عليهم، فيعصمهم من الخلل والزلل، حتى في حالة الانفراد وعدم اطلاع الناس، وكان منهم مَن يُبالغ في ذلك، فكان خيار المتعبدين مثلًا يَخْجَلُونَ مِن كَشْف عوراتهم، وهم مُنْفَرِدُونَ؛ لأنهم يتذكرون أن الله ـ تعالى ـ معهم، لا يغيب عنهم، ولا ينقطع عن الاطلاع عليهم، فكل منهم يقول لنفسه ( من الطويل ):
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل : خلوت، ولكن قل : عليَّ رقيب
ولا تحسبنَّ الله يغفل ســـــــاعة ولا أنَّ ما تخفيه عنه يغيب.
نماذج قوي إيمانها وحيى ضميرها:
ويروى أن شابًّا غرًّا راود فتاة مؤمنة عفيفة عن نفسها، وقد أقبل الليل، وانتشر الظلام، فتأبَّت عليه قائلة: ” أما تستحي ؟ ” فقال لها: “مِمَّن أَسْتحِي وليس أمامنا إلا الكواكب”؟، فأجابته الفتاة زاجرة مُؤَدِّبَة: “فأين مُكَوْكِبُهَا؟”. أي فأين الله مُبْدِعُهَا ـ جلَّ جلاله ـ؟.
وقصة عمر مع ابنة بائعة اللبن مشهورة، وسلطان الضمير الديني فيها لائح واضح، فقد سمع عمر وهو يتفقَّد أحوال الرعية بالليل امرأة تقول لابنتها داخل البيت: يا ابنتي، قومي اخلطي اللبن بالماء؛ فأخبرتها الفتاة أن منادي الخليفة عمر، قد نادى بألا نَخْلِطَ اللبن بالمَاءِ، فقَالَت لَهَا الأم: إنكِ في مكان لا يراك فيه عمر ولا منادي عمر، فأجابتها ابنتها مُسْتَنْكِرَة مُذَكِّرَة: لا والله يا أماه، ما كنت لأطيعه في الملا، وأعصيه في الخلا، إن كان عمر لا يرى فربُّ عمر يرى.
الخوف من الله يردع عن الشهوات:
والقلب ـ كما قال أحد الحكماء ـ متى ثارت فيه ثوائر الشهوات لم تستطع أن تردها قوة العلم والثقافة؛ لأن النفس تجد من كليهما مخرجًا بالتستر أو سواه، ولكن تستطيع أن تردها قوة العقيدة بالله، وقد صلحت هذه القوة أن ترد عن الشهواتِ جماعات لم تنل من العلم ولا الثقافة شيئًا يُذكر، ويوم يجتمع التعلم والتدين تكتمل قوة الضمير الصالحة في نفس الإنسان.
والذين يُؤمنون بالله ويَعتقدون في يوم الجزاء، قد يهفون أو يزَلِّون، لما في الإنسان من حظٍّ النقص، وجلَّ من لا يُخطئ ولا يسهو، ولكنهم سرعان ما يفيئون مِن زللهم، ويتوبون إلى ربهم، ويُعاودون الاستقامة على طريقهم؛ لأن هاتفًا قويًّا في أعماقهم هَتَفَ بِهِم أنَّ رَبَّهُمْ مُطَّلِعٌ عليهم، وأنه لهم بالمرصاد، وأنه هو الغفور الرحيم، وصاحب العذاب الأليم، وفي وقت واحد، وهذه الإنابة تجعلهم على الدوام يقظين مُحْترِسِينَ، مقومين لِمَا يعرض لهم مِن خَلَلٍ أوْ انْحِرَاف، يقول الله تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هَمْ مُبْصِرُونَ. وَإِخْوَانَهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) (الأعراف:200 ـ 202). والنزع هنا أقل وسوسة تكون، فأمر الله عبده أن يهرب من الوسوسة بالمراقبة والتذكر، وأن يلجأ إلى الله ويعتصم بحماه، حتى لا يركن إلى هذه الوسوسة، أو يستجيب لها، والمتقون لربهم إذا ألَمَّ بهم شيء من جهة الشيطان تنبَّهوا واستيقظوا، فإذا هم على بصيرة من الأمر، وحَذَرٍ من السوء، وأما الفُجَّار فَإن الشياطين تُسْرِف في إِغْوَائِهِمْ دون ارعواء أو انتهاء.