المسلم يجب عليه أن يقوم بالحق والخير كما يرشده دينه ، فإن عجز عن ذلك في بلاده ، وجب أن يهاجر منها إلى حيث يقدر عليه ، وإلا كان ظالمًا لنفسه ، وقيل له يوم الحساب إذا اعتذر باستضعاف الكفار أو الفساق له ومنعه من العمل بدينه : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجر فيها ؟ ولا تجب الهجرة وجوبًا عينيًّا على من كان متمكنًا من إقامة دينه ، آمنًا من الفتنة فيه .
يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:
لا تجب الهجرة وجوبًا عينيًّا على من كان متمكنًا من إقامة دينه ، آمنًا من الفتنة فيه ، وهي الإكراه على تركه ، أو المنع من إقامة شعائره والعمل به ، وهو نحو مما قالته عائشة ، ففي البخاري أنها سئلت عن الهجرة فقالت : لا هجرة اليوم ، كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله ؛ مخافة أن يفتن ، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام ، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء .
والأصل في المسألة آية [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( النساء : 97 ) ، وفيها أحاديث وآراء للعلماء نذكر أهمها :
فأصح ما ورد فيها حديث ابن عباس عند أحمد والشيخين وأصحاب السنن الثلاثة عن النبي ﷺ أنه قال : ( لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا ) ، وروي مثله عن عائشة في الصحيحين ، وروى أحمد و النسائي و ابن ماجه والطبراني وغيرهم عن عبد الله بن السعدي أن النبي ﷺ قال : ( لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو ) ، وهو يوافق حديث ابن عباس في وجوب النفر على من استُنْفِرَ للجهاد الشرعي وترك وطنه لأجل ذلك ، وهذا لا وجود له الآن .
وأما حديث جرير بن عبد الله عند أبي داود و الترمذي : ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ) وتعليله ذلك بقوله : ( لا تتراءى ناراهما ) ، فقد صحح البخاري وأبو حاتم -مخرجاه- وغيرهم إرساله إلى قيس بن أبي حازم ، وفي الاحتجاج بالمراسيل الخلاف المعروف في الأصول ، ورواه الطبراني موصولاً، وقد كان للإسلام سياسة خاصة في مشركي العرب ، وفي الباب حديث عن معاوية رواه أحمد وأبو داود والنسائي؛ وهو أنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ) وهذا الحديث قال الخطابي : ( إسناده فيه مقال ) .
أما أقوال العلماء في أحكام هذه الأحاديث، فنذكر منها ما أورده الشوكاني في شرح المنتقى في الجمع بينها قال:وقد اختلف في الجمع بين أحاديث الباب، فقال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم؛ لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين أفواجًا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو. انتهى
قال الحافظ ( ابن حجر ) :وكانت الحكمة في وجوب الهجرة على من أسلم ؛ ليسلم من أذى من يؤذيه من الكفار ، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه ، وفيهم نزلت [ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ]( النساء : 97 ) الآية ، وهذه الآية باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها .
وقال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر ، فقد صارت البلد به دار إسلام ، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة عنها ؛ لما يترجى من دخول غيره في الإسلام .
ولا يخفى ما في هذا الرأي من المصادمة لأحاديث الباب القاضية بتحريم الإقامة في دار الكفر .
وقال الخطابي أيضًا إن الهجرة افترضت لما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة إلى حضرته ؛ للقتال معه وتعلم شرائع الدين ، وقد أكد الله ذلك في عدة آيات ، حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر ، فقال : [ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ]( الأنفال : 72 ) فلما فتحت مكة ، ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل ، انقطعت الهجرة الواجبة وبقى الاستحباب .
وقال البغوي في شرح السنة :يحتمل الجمع بطريق أخرى ، فقوله : ( لا هجرة بعد الفتح ) أي من مكة إلى المدينة ، وقوله : ( لا تنقطع ) أي : من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام ، قال : ويحتمل وجهًا آخر ؛ وهو أن قوله : ( لا هجرة ) أي : إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذن ، فقوله : ( لا تنقطع ) أي : هجرة من هاجر على غير هذا الوصف من الأعراب ونحوهم ، وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الإسماعيلي بلفظ انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار ؛ أي : ما دام في الدنيا دار كفر ، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه ، ومفهومه أنه لو قدر أن لا يبقى في الدنيا دار كفر أن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها ، وأطلق ابن التين أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة ، وأن من أقام بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بغير عذر كان كافرًا ، قال الحافظ : وهو وإطلاق مردود .
وقال ابن العربي: الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وكانت فرضًا في عهد النبي ﷺ ، واستمرت بعده لمن خاف على نفسه ، والتي انقطعت أصلاً هي القصد إلى حيث كان ، وقد حكى في البحر أن الهجرة عن دار الكفر واجبة إجماعًا حيث حمل على معصية فعل أو ترك أو طلبها الإمام بقوته لسلطانه ، وقد ذهب جعفر بن مبشر وبعض الهادية إلى وجوب الهجرة عن دار الفسق ؛ قياسًا على دار الكفر ، وهو قياس مع الفارق ، والحق عدم وجوبها من دار الفسق ؛ لأنها دار إسلام ، وإلحاق دار الإسلام بدار الكفر بمجرد وقوع المعاصي فيها على وجه الظهور ليس بمناسب لعلم الرواية ولا لعلم الدراية ، وللفقهاء في تفاصيل الدور والأعذار المسوغة لترك الهجرة مباحث ، ليس هذا محل بسطها .ا.هـ .
ما أورده الشوكاني وهو زبدة ما قيل في شرح الأحاديث من علمائه .
أقول : إنك تجدهم قد اختلفوا في كل وجه من وجوه المسألة إلا اثنين :
أحدهما : عدم التمكن من إقامة الدين بالفتنة ؛ وهي حمل المسلم على الكفر أو مخالفة دينه في فعل أو ترك أو بالجهل .
وثانيهما :الجهاد الديني ؛ أي : المتعلق بحماية دعوة الإسلام وأمن أهله على دينهم وحقيقتهم .
ففي هاتين الحالتين تجب الهجرة بلا خلاف ؛ أي : على من عجز عن إقامة دينه ، سواء كان واحدًا أو جمعًا ، وعلى من احتيج إلى جهاده ، وكان نفره مما يعزز المسلمين ويفيدهم في الدفاع المطلوب شرعًا ، فأما هذا الوجه فمن البين الظاهر أنه لا يتحقق في أهل بوسنة الآن كما تقدم ، وما أظن أن الوجه الأول متحقق فيهم أيضًا ، وهم أعلم بأنفسهم .
ويدخل في باب الوجه الأول الهجرة إلى طلب العلم الواجب عند الحاجة إلى ذلك ، فإن لم يهاجر من يتعلم ويعود ليعلم أثم جميع المسلمين الذين فقدوا هذا العلم في وطنهم ، وكذلك الهجرة من المكان الذي فشا فيه الفسق والمجاهرة بالمنكرات ، وصارت التربية على التقوى والصلاح متعذرة فيه .
وقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارًا ولا يستقر فيها . واحتج بصنيع أبي الدرداء في خروجه من أرض معاوية حين أعلن بالربا ، فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها ، رواه أهل الصحيح .
وقال مالك في موضع آخر :إذا ظهر الباطل على الحق ، كان الفساد في الأرض ، وقال : لا تنبغي الإقامة في أرض يكون العمل فيها بغير الحق . ا.هـ
أقول :وإنما يكون هذا من الأفراد الذين يتعذر عليهم إزالة المنكر ، فإن وجد جمع يقدر على إزالة المنكر ، وجب عليه دون الهجرة ، ومن قال : إنه لا يظهر له دخول هذا في الوجه الأول ، قلنا : لك أن تعدّه وجهًا آخر وهو ظاهر، ولا حاجة إلى قياس الفسق على الكفر ؛ ليصح ما ذكر من الهجرة من حيث يفشو الفسق ويتعذر الصلاح أو يتعسر إلى حيث الصلاح والخير .
وجملة القول: أن المسلم يجب عليه أن يقوم بالحق والخير كما يرشده دينه ، فإن عجز عن ذلك في بلاد ، وجب أن يهاجر منها إلى حيث يقدر عليه ، وإلا كان ظالمًا لنفسه ، وقيل له يوم الحساب إذا اعتذر باستضعاف الكفار أو الفساق له ومنعه من العمل بدينه : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجر فيها ؟