إذا كان تراثنا من الفعل الإنساني، وليس له في ذاته عصمة ولا قداسة، فمن حقنا أن نقف معه وقفة الناقد البصير، الذي يعتبره ثروة عظيمة يجب الاستفادة منها، بالانتقاء والانتخاب من بين كنوزها، ما يقبله العقل، ويرضاه النقل، وتقتضيه المصلحة المشروعة، وأن ندع منها ما ثبت لدينا خطؤه، أو لم يعد صالحا في زماننا، أو لغير ذلك من الأسباب التي يرتضيها عقلنا المهتدي بما أنزل الله من الكتاب والميزان.
كيف نتعامل مع التراث الإسلامي:
نود أن نركز هنا على جملة مبادئ يجب أن نتعامل بها مع تراثنا العظيم:
الأول: أن ننظر في سنده، لنعرف صحة ثبوته من عدمها، فليس كل ما نسب إلى السلف صحيحا.
الثاني: ثبوت حقنا في نقده، ما دام غير معصوم.
الثالث: وجوب العدل والاعتدال في تقويمه ونقده. الرابع: ألا يتجاوز النقد إلى الطعن والتجريح.
1ـ ليس كل ما نسب إلى التراث صحيح الثبوت: وينبغي أن يعلم هنا أن كثيرا مما ينسب إلى السلف غير صحيح النسبة إليهم. فكثيرا ما يروى القول أو الرأي أو الخبر عنهم بغير سند أصلا، أو يروى بإسناد واهٍ أو موضوع مختلق، ومثل هذا يجب أن يُرفض وفق موازين النقد العلمي، التي وضعها أئمة الإسلام لقبول الأخبار والمرويات، فلا بد من السند أولا، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء! ولا بد من أن يكون صحيحا، أي من رواية الثقات المعروفين، الذين لا تخدشهم تهمة في عدالتهم أو ضبطهم، مع اتصال السند من مبدئه إلى منتهاه.
وإذا كان من أحاديث النبي ﷺ، ما روي معلقا بغير إسناد، ومنها ما روي بأسانيد منقطعة أو واهية، بل وموضوعة مكذوبة، رغم تشديده ﷺ وتحذيره البالغ من الكذب عليه، فلا عجب أن يوجد مثل ذلك في أخبار من دونه من صاحب وتابع ومن بعدهم، على أن من العلماء من قد يدقق في رواية الأحاديث النبوية المرفوعة، ولكنه يتساهل غاية التساهل في الرواية عن سلف الأمة وعلمائها وصلحائها، وهذا يوجد كثيرا في كتب الرقائق والتصوف.
ومن ثم يلزم الباحث عن الحق فيما يروى عن السلف رضي الله عنهم أن يستوثق أولا من ثبوت المروي عنهم من ناحية سنده، ونحب أن نشير إلى أن ثبوت المروي لا يكون بكثرة ذكره في بعض الكتب، كما يفعل أكثر المعاصرين، فالتوثيق عندهم أن ينقلوا النص أو الرواية من أكثر من كتاب، مشيرين إلى الجزء والصفحة والطبعة، ولكن هذا لا يغني ما لم يعرف السند وقيمته، فهذا هو المعيار الوحيد لثبوت الأخبار لدى المحققين من علماء المسلمين. فإذا ثبت الخبر وصح سنده، كان البحث في دلالته ومعناه.
2ـ شرعية نقد التراث السلفي: وإذا ثبت نفي العصمة عن كل أحد غير رسول الله ﷺ، فمعنى ذلك: أن من عداه من صحابة أو تابعين أو أتباع تابعين، أو من بعدهم، من العلماء والأئمة في كل الاختصاصات: في التفسير أو الحديث أو الكلام، أو الفقه أو الأصول أو التصوف، كل هؤلاء بشر مجتهدون في علومهم وتخصصاتهم غير معصومين، فكل ما قالوه أو انتهوا إليه من آراء واجتهادات قابلة للنقد، محتملة للنقاش. وإن كان له صلة بفهم الدين وتفسيره وشرحه والاستنباط منه، ولكنه في جملته عمل العقل البشري الذي قد يصيب وقد يخطئ، وقد يهتدي، وقد يضل.
ولهذا ورد عن غير واحد من السلف هذه الكلمة الصادقة: كل أحد يؤخذ من كلامة ويترك إلا النبي ﷺ. وهذه الكلمة: ما من أحد إلا يؤخذ من كلامه ويترك.. الخ مروية عن أكثر من واحد من السلف، فقد رويت عن حبر الأمة عبد الله بن عباس، وعن عطاء ومجاهد من أئمة التابعين، وعن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنهم جميعا، وذكر الغزالي في (الإحياء) سبب ورود هذه الكلمة عن ابن عباس فقال: وقد كان تعلم من زيد بن ثابت الفقه، وقرأ على أبي بن كعب، ثم خالفهما في الفقه والقراءة جميعا.
وقال بعض السلف: ما جاءنا عن رسول الله ـ ﷺ ـ قبلناه على الرأس والعين. وما جاءنا عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فنأخذ منه ونترك، وما جاءنا عن التابعين، فهم رجال ونحن رجال.
وهذا القول يروى عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. وكان ابن عباس ينكر أشد الإنكار على من يرد سنة رسول الله ﷺ لقول قائل مهما تكن منزلته، ولو كان أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد اشتد واحتد على من حاجوه برأي الشيخين في مقابلة حديث نبوي، فقال: توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء! أقول: قال رسول الله ﷺ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!! لم تضمن العصمة من الخطأ لأحد من الأمة كائنا من كان، لكن ضمنت العصمة لمجموع الأمة، فهذا الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولهذا كانت العقائد والمبادئ والمفاهيم والأحكام الأساسية التي أجمعت عليها الأمة إجماعا يقينيا، وتوراثها خلفها عن سلفها بالتواتر العملي اليقيني، هي التي تمثل (ثوابت الأمة) في اعتقادها وفكرها وسلوكها، وهي التي تجسد وحدة الأمة العقدية والعقلية والشعورية والعملية، وتحفظها من الذوبان، والتشتت إلى أمم وجماعات يجافي بعضها بعضا، بل قد يعادي بعضها بعضا، بل قد يقاتل بعضه بعضا.
وهذه هي (المنطقة المغلقة) من تراث الأمة، التي لا تقبل التطور ولا التجديد ولا الاجتهاد، وهي منطقة (محدودة) جدا، ولكنها مهمة جدا، فلولاها لضاعت الأمة، وذهبت هويتها، وانسلخت من جلدها. وإذا كان عمل العقل المسلم في فهم نصوص الدين وتفسيرها واستنباط الأحكام منها: جهدا بشريا قابلا للنقد والمناقشة، فأولى بقبول ذلك ما كان غير مرتبط بالدين من التراث، مثل: الفلسفة والتاريخ واللغة والأدب والفن، ونحوها، فمساحة النقد فيها أرحب بلا نزاع.
موقف الناس من تراث السلف:
ونحن هنا نجد الناس ـ وخصوصا في عصرنا ـ طائفتين على طرفي نقيض:
1ـ فطائفة تضفي على التراث ـ كل التراث ـ قدسية، تجعله فوق النقد، وفوق المساءلة، وفوق الاختبار، ويجب أن يؤخذ تراث السلف كله مأخذ القبول والتسليم، وأن نقول لكل رأي فيه: آمنا وصدقنا، ولكل حكم فيه: سمعنا وأطعنا.
2ـ وفي مقابل هذه الطائفة: طائفة أخرى على عكسها تماما، تريد أن تلغي التراث كله لو أمكنها، وتهيل التراب عليه، وتبدأ من جديد، كما تبدأ الأمم التي ليس لها حضارة ولا تاريخ، وكما يبدأ الفرد الذي أصيب بفقد الذاكرة، فليس له ماض يرجع إليه، إنما هو ابن يومه، ولا علاقة له بأمسه.
والموقف العادل الراشد هو الموقف الوسط بين الفئتين أو الطائفتين، ويتمثل هذا الموقف أساسا في التفريق بين الوحي الإلهي والتراث البشري، فما كان من الوحي الإلهي، من نص قرآني أو حديث نبوي صحيح الثبوت صريح الدلالة، ليس له معارض من الشرع أو العقل، فالواجب الإذعان له واتباعه. وما كان من أفهام البشر للوحي الإلهي من القرآن والسنة، فمن حقنا أن نناقشه، وأن نأخذ منه وندع، ولكن وفق الأصول المرعية، لا اتباعا للأهواء، فإن اتباع الهوى يعمي ويصم (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) وإذا كان القول من عالم ثقة في علمه ودينه، ورضيه أهل الإسلام: فلا ينبغي التسرع في رد قوله، بل ينبغي أن يحمل قوله على محمل حسن مقبول، ما أمكن ذلك. فالعالم المُقْتَدَى به، المقبول عند الأمة، يفترض في مثله ألا يخالف الكتاب والسنة إلا من خطأ أو غفلة، فلهذا يدفعنا حسن الظن به إلى التماس المخارج المقبولة لتأويل كلامه بما يليق به وبسيرته ومنهجه، دون اعتساف أو تكلف.
فإذا لم يتهيأ ذلك، فلا يسعنا إلا أن نحكم على قوله أو سلوكه بالخطأ، لأنه بشر مجتهد غير معصوم، دون أن نتهمه في نيته، أو نجرِّحه في دينه، أو نحقر من شأنه.
يقول ابن تيمية: ” الغلط ـ مع حسن القصد وسلامته، وصلاح الرجل وفضله ودينه، وزهده وورعه وكراماته ـ كثير جدا، فليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما من الخطأ والغلط، بل ولا من الذنوب.
وأفضل أولياء الله بعد الرسل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال له لما عبر الرؤيا: ” أصبت بعضا وأخطأت بعضا ” اهـ. ومن ذلك تعليق ابن تيمية على ما جاء عن الشبلي رحمه الله: أنه سمع قارئا يقـرأ قوله تعـالى: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) آل عمران:152 فصرخ. وقال: أين من يريد الله؟! قال: فيحمد منه كونه أراد الله، ولكن غلط في ظنه أن الذين أرادوا الآخرة ما أرادوا الله. وهذه الآية في أصحاب النبي ﷺ الذين كانوا معه بأحد، وهم أفضل الخلق، فإن لم يريدوا الله، أفيريد الله من هم دونهم كالشبلي وأمثاله ؟! إذا كانت البدعة عن خطأ في الاجتهاد: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد كان النبي ﷺ يقول في الحديث الصحيح في خطبة بوم الجمعة: ” خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة “، ولم يقل: (وكل ضلالة في النار) بل يضل عن الحق من قصد الحق، وقد اجتهد في طلبه فعجز عنه فلا يعاقب، وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده، وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له.
وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم. وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وفي الصحيح: أن الله قال: ( قد فعلت) وبسط هذا له موضع آخر.
3ـ وجوب الاعتدال في تقويم تراثنا الديني والفكري: والاعتدال في تقويم تراثنا الصوفي والكلامي والفقهي والأثري هو المطلوب والمحمود، فتوزن هذه المواريث كلها بما لها وما عليها بالقس،. ويفصل بين طوائفها واتجاهاتها بالحق، فيعطي كل منها حكمه الخاص به لا يتعداه، دون تعصب لفئة، أو تعصب ضد أخرى. بل كما أمرنا الله عز وجل أن نكون شهداء بالقسط مع من نحب، ومع من نكره، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله، ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) النساء:135 وقال: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة:8.
وهذا هو موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من ” التصوف والصوفية ” فقد بيّن تنازع الناس في طريقهم، ما بين مبالغ في التعظيم، ومبالغ في الذم والإنكار.
قال: فطائفة ذمّت ” الصوفية والتصوف ” وقالوا: إنهم مبتدعون، خارجون عن السنة، ونُقِل عن طائفة من أهل الفقه والكلام، وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق، وأكملهم بعد الأنبياء، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم، و” الصواب ” أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه. وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم، كالحلاج مثلا، فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه، وأخرجوه عن الطريق مثل: الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره، كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في ” طبقات الصوفية “، وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد.
فهذا أصل التصوف، ثم إنه بعد ذلك تشعب وتنوع، وصارت الصوفية ” ثلاثة ” أصناف: صوفية الحقائق، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسم. فأما ” صوفية الحقائق ” فهم الذين وصفناهم. وأما ” صوفية الأرزاق ” فهم الذين وقفت عليهم الوقوف، (كالخوانك) فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق، فإن هذا عزيز، وأكثر أهل الحقائق لا يتصفون بلزوم (الخوانك)، ولكن يشترط فيهم ثلاثة شروط: أحدها: العدالة الشرعية بحيث يؤدون الفرائض، ويجتنبون المحارم. والثاني: التأدب بآداب أهل الطريق، وهي الآداب الشرعية في غالب الأوقات، وأما الآداب البدعية والوضعية فلا يلتفت إليها. والثالث: أن لا يكون أحدهم متمسكا بفضول الدنيا. فأما من كان جَمَّاعا للمال، أو كان غير متخلق بالأخلاق الحميدة، ولا يتأدب بالآداب الشرعية، أو كان فاسقا، فإنه لا يستحق ذلك. وأما ” صوفية الرسم ” فهم المقتصرون على النسبة، فهـمّهم في اللباس والآداب الوضعية، ونحو ذلك، فهؤلاء في الصوفية بمنزلة ” الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد، ونوع ما ـ من أقوالهم وأعمالهم، بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم “. اهـ
وهذا الموقف هو أعدل المواقف وأصوبها وأبعدها عن الإفراط والتفريط، فليس من العدل تجريدهم من كل فضيلة، واتهامهم بكل نقيصة، كما يفعل ذلك المتعصبون عليهم، الذين يلقون على كاهلهم أوزار البدع والانحرافات التي كدرت صفاء الإسلام، ولوثت حياة المسلمين. وكثير من هؤلاء ممن ينسبون أنفسهم إلى مدرسة ابن تيمية. وهذا في الواقع ليس من الإنصاف، فكل الفئات من المتكلمين والمتفقهين والمحدثين كالمتصوفين، لهم وعليهم، ولا تخلو فئة من هؤلاء من غلو أو تقصير في بعض الأمور، والمتقدمون في كل فئة خير من المتأخرين في الجملة، فالقرون الأولى هي خير قرون هذه الأمة، وكل من كان قريبا من هذه القرون فهو أقرب إلى هدي الرسول وأصحابه، وإلى منهج الإسلام القويم. وللصوفية جهودهم وآثارهم في نشر الإسلام بين الكفار، وفي التربية الروحية بين المسلمين، ولهم أخطاء وانحرافات، والمخلصون منهم مثابون على حسناتهم، معذورون في أخطائهم، بل مأجورون فيها إذا كانت بعد تحرّ واجتهاد. وعلى هذا النهج سار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، فقوّما ميراث القوم بميزان الكتاب والسنة، فقبلوا منه وردّوا، وأخذوا وتركوا. نجد ذلك واضحا في رسائل ابن تيمية وفتاويه المتعلقة بالتصوف والسلوك. وقد بلغت مقدار مجلدين في مجموع فتاويه التي بلغت خمسة وثلاثين مجلدا، وطبعت بالرياض.
ونجده في كتب ابن القيم المتعلقة بهذا الجانب مثل ” الداء والدواء ” و”عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ” و ” باب الهجرتين وطريق السعادتين ” وغيرهما مما يبحث في هذه النواحي، وأعظمها وأجمعها ولا شك ” مدارج السالكين. شرح منازل السائرين “. نجد ابن تيمية يثني على سيد الطائفة الجنيد، وعلى أبي سليمان الداراني، وأمثالهما من متقدمي الصوفية، ويمتدح الشيخ عبد القادر الجيلاني، ويشرح بعض فقرات من كتابه ” فتوح الغيب ” شرحا يبرز فضل الشيخ ومكانه من العلم ومعرفة الطريق، ويحمل بعض ما فيها على أحسن المحامل، ما وجد لذلك سبيلا. ولكنه بجوار ذلك ينكر أشد الإنكار مذهب ابن عربي وابن سبعين والتلمساني وغيرهم من القائلين بوحدة الوجود، ويرى أن مذهبهم يناقض الإسلام، بل الأديان قاطبة. وبهذا كان موقفه وسطا وعدلا، ليس مع الذامّين للصوفية بإطلاق، ولا المادحين لهم بإطلاق، بل عاب هؤلاء وهؤلاء، وجعل مقياس الصواب والخطأ، والاستقامة والانحراف في ذلك، هو القرب من كتاب الله تعالى، ومن هدي الرسول وصحابته وتابعيهم بإحسان، أو البعد عنه، قال: ” والصواب: للمسلم أن يعلم أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وخير القرون القرن الذي بعث فيهم، وأن أفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه، ويعلم من ذلك أن على المؤمنين أن يتقوا الله بحسب اجتهادهم ووسعهم، كما قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) التغابن:16 وقال: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) البقرة: 286 وقال ﷺ: ” إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم “. ” وإن كثيرا من المؤمنين المتقين ـ أولياء الله ـ قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ما حصل للصحابة، فيتقي الله ما استطاع، ويطيعه بحسب اجتهاده، فلا بد أن يصدر منه خطأ، إما في علومه وأقواله، وإما في أعماله وأحواله، ويثابون على طاعتهم، ويغفر لهم خطؤهم، فإن الله تعالى قال: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير … إلى قوله ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) البقرة: 285،286 قال الله تعالى: قد فعلت . ” فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء، أو طريق أحد من العبّاد والنّساك أفضل من طريق الصحابة، فهو مخطئ، ضالّ مبتدع، ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا، فهو مخطئ ضالّ مبتدع. ” ثم الناس في الحب والبغض والموالاة والمعاداة هم أيضا مجتهدون، يصيبون تارة، ويخطئون تارة، وكثير من الناس إذا علم من الرجل ما يحبه، أحب الرجل مطلقا، وأعرض عن سيئاته، وإذا علم منه ما يبغضه أبغضه مطلقا، وأعرض عن حسناته ” .
4ـ نقد الآراء لا يعني الطعن في أصحابها: وإذا كان نقد الآراء والأقوال المنقولة عن السلف ـ ناهينا بالخلف ـ مشروعا، بل قد يكون واجبا في بعض الأحيان، فلا يعني هذا أن يصل النقد إلى حد الطعن في الأشخاص، والتجريح لهم، فهذا توجه مذموم ومرفوض في ميزان الشرع، لعدة أسباب:
أـ أن الإسلام شرع الاجتهاد في الدين لكل من هو أهله، فمن اجتهد في فهم القرآن أو السنة وفق علمه وثقافة عصره، واستفرغ في ذلك وسعه، فقد بذل ما عليه، ولم يكلفه الله أن يصيب الحق، فإن أصابه فله أجران، وإن أخطأه فله أجر واحد، وهو أجر التحري وبذل الجهد، فلم يكتف بأن جعله مقدورا، بل جعله مأجورا.
بل إن القرآن الكريم ذكر لنا قضية حكم فيها نبيان من أنبياء الله تعالى ورسله الكرام، ففهمها أحدهما وأصاب الحق فيها، ولم يصب الآخر، ومع هذا أثنى القرآن على كل منهما، كما قال تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكما وعلما) الأنبياء:
ب ـ أن الثواب والعقاب في الإسلام مبنيان ـ أساسا ـ على النية والقصد، فما قصد به وجه الله تعالى، فهو خير وبر، وهو قربة وعبادة، وما قصد به حب الدنيا أو حب الذات واتباع الهوى، فهو من عمل الشيطان. وقد قال رسول الله ﷺ: ” إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ” متفق عليه عن عمر.
ونحن نفترض حسن النية وقصد الخير، فيمن يشتغلون بعلوم الشرع، ويعملون في ساحة الدين، تحسينا للظن بهم، وحملا لحالهم على الصلاح، ولم نؤمر أن نكشف عن دخائلهم، وليس في وسعنا لو أردناه، إنما أمرنا أن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. فهم موكولون إلى نياتهم.
ج ـ أن الرأي الذي ننقده اليوم ـ في القرن الخامس عشر الهجري .. والقرن الحادي والعشرين الميلادي ـ بمنطقنا اليوم، وبما لدينا من معلومات تتزايد وتتضاعف يوما بعد يوم في عصر (انفجار المعرفة) و (ثورة المعلومات) ربما كان في عصره وفي بيئته رأيا صالحا وسديدا ومتقدما، وربما أدى مهمته في مكانه وزمانه. وليس من العدل أن نحاكم رأيا له عشرة قرون أو بضعة عشر قرنا، بمنطق عصرنا، وندينه ونجرح قائله، فهذا من الظلم المبين، فالواجب أن يوضع كل قول وكل رأي وفكر في إطاره التاريخي في زمانه ومكانه وملابساته، ونحكم له أو عليه ضمن هذا الإطار، فقد ننتهي إلى أن هذا الرأي كان صالحا في ذلك الزمان، ولم يعد صالحا اليوم، ولهذا قال الفقهاء: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان.
د ـ أن المنقود بشر غير معصوم، والناقد أيضا بشر غير معصوم، وما يدرينا لعل الصواب مع المنقود، ولعل الخطأ مع الناقد، فليخفف الناقد من غلوائه، وليتواضع قليلا، وليعلم أن أحدا لم يؤت الحقيقة كلها، ولا الحكمة كلها، وقد قال الله عز وجل: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الإسراء: وقال الشافعي رضي الله عنه: كلما أدبني الدهـــــــر أراني نقص عقلي وأراني ازددت علما زادني عـلما بجهلي وهذا الخلق ـ خلق التواضع ـ هو من شيمة العلماء الأصلاء، لا الدخلاء، فهو ـ وإن ارتقى في العلم ما ارتقى ـ يعتقد أنه ينقصه الكثير، ويسأل الله المزيد، كما قال تعالى لرسوله: (وقل رب زدني علما) طه:111.
وكم من علماء كانوا متمسكين بآراء ظلوا طوال عمرهم مؤمنين بها، داعين إليها، ذائدين عنها، مخاصمين لمعارضيها، وفي آخر حياتهم أعرضوا عنها، وآمنوا بضدها، كما رأينا ذلك عند إمام الحرمين الجويني، وأبي حامد الغزالي، وفخر الدين الرازي وغيرهم من كبار متكلمي الأشاعرة، الذين خاضوا لجج التأويل، ثم انتهوا في آخر حياتهم إلى رأي السلف رضي الله عنهم في التسليم وترك التأويل.
هـ ـ أن من القيم الرفيعة المأمور بها في ديننا، والمتوازنة عندنا: أن نكون عدولا حتى مع خصومنا، ولو كانوا كفارا معادين لنا، كما قال تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة: ولهذا تعامل أئمتنا وعلماؤنا الكبار مع مخالفيهم بالعدل والاعتدال، بل بالحب والإخاء، ولم تدفعهم المخالفة في الرأي أو المذهب إلى الخصومة أو الطعن والتجريح، وسع بعضهم بعضا، وصلى بعضهم وراء بعضن حتى الخلفاء الراشدون ـ والسلطة بأيديهم ـ كانوا يحترمون آراء الآخرين، ولا يجبرون الناس على اتباع آرائهم، وإن كانوا يرونها صوابا. عن عمر أنه لقي رجلا فقال: ما صنعت (في قضية له)؟ فقال: قضى علي وزيد بكذا، فقال عمر: لو كنت أنا لقضيت بكذان قال: فما يمنعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة رسول الله ﷺ لفعلت، ولكني أردك إلى رأيي، والرأي مشترك. فلم ينقض ما قال علي وزيد (وهو يرى خلاف ما ذهبا إليه) .
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله (يعني أحمد بن حنبل) يسال عن رجل يقدم وعليه جلود الثعالب أو غيرها من جلود الميتة المدبوغةن فقال: إن كان لبسه وهو يتأول ” أيما إهاب دبغ فقد طهر ” فلا بأس أن تصلي خلفه، قيل له: فتراه أنت جائزا؟ قال: لا، نحن لا نراه جائزا لقول النبي ﷺ ” لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ” ولكنه إذا كان يتأول فلا بأس أن يصلي خلفه. قيل له: كيف وهو مخطئ في تأويله، ليس من تأول كمن لا يتأول، ثم قال: كل من تأول شيئا جاء عن النبي ﷺ وعن أصحابه، أو عن أحدهم فذهب إليه، فلا بأس أن يصلي خلفه، وإن قلنا نحن خلافه من وجه آخر؛ لأنه قد تأول. يعني الإمام أحمد: أنه يحترم صاحب الرأي الآخر، وإن كان يخالفه، مادام ذلك الرأي مؤسسا على تأويل وموقف علمي، وهذا هو التسامح الذي يليق بأمثال أحمد رضي الله عنه.