الوباء من النوازل التي تتطلب ممن يتصدى للإفتاء في القضايا المتعلقة بها كثيرا من الأناة والتبصر، والفهم العميق للنازلة، ومراعاة الأحوال والأعراف، والنظر في المآلات، ومشاورة أهل الذكر في كافة التخصصات حتى تخرج الفتوى أقرب للصواب ويكون حظ المفتي فيها الأجر أو الأجرين.
والسفر إلى البلاد الموبؤة بأي وباء أو المنع منه أمر يقدره ويقرره ولاة الأمر بعد مراجعة العلماء والخبراء المختصين، فمن حق الحكومات القيام بواجبها تجاه حماية الناس من هذا الوباء، ولا يعد هذا اعتداء على حرية الإنسان في التنقل، والعلم والسياحة، لأن هذا الأمر إن حدث ففيه حماية للإنسان خاصة، وللناس عامة.
وهذه النازلة يتنازعها كثير من الأدلة الشرعية والقواعد الفقهية لا بد أن نجمع بينها إن أمكننا الجمع، أو نرجح بينها إن احتجنا إلى الترجيح .
ـ التعارض الظاهري بين الأدلة:
وروى مسلم بسنده عن رسول الله ـ ﷺ ـ أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي – ﷺ -: ” ارجع فقد بايعناك “.
وقال في شأن الطاعون – وهو وباء عام -: ” إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه “. متفق عليه
وهذه الأحاديث قد يفهم منها التعارض بين ما رواه أبو هريرة أيضا عن رسول الله ـ ﷺ ـ أنه قال : ” لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صَفَر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد”.” ومعناه كما ذكر عدد من العلماء : أن الأمراض لا تعدي بطبعها وذاتها كما يعتقد أهل الجاهلية، بل بتقدير الله تعالى، وبناء على سننه الكونية.
وبالتالي لا يكون هناك تعارض بل الثابت والصحيح هو أخذ الحذر والحيطة، والتداوي والأخذ بالأسباب.
التعارض بين التداوي والأخذ بالأسباب والتوكل :
يقول ابن حجر -رحمه الله-: الحق أن من وثق بالله، وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطي الأسباب اتباعا لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر ـ ﷺ ـ بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب ، وادخر لأهله قوت سنتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك. وقال للذي سأله: ” أعقل ناقتي أو أدعها ؟ ” قال ” اعقلها وتوكل ” فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل .انتهى كلام ابن حجر.
هل التداوي ينافي التوكل :
ـ التعارض والترجيح بين المصالح والمفاسد:
على المفتي أن ينظر إلى هذه القواعد الفقهية مجتمعة، مثل : لا ضرر ولا ضرار، والضرر يزال، ويدفع الضرر الأعلى بالضرر الأدنى، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح في الغالب، والضرورة تقدر بقدرها، وتقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة … إلى غير ذلك من القواعد والضوابط الفقهية.
الأسس التي تقوم عليها نظرية الضرر :
الأساس الأول: منع الضرر:
وهو يقوم في الأصل على أخذ كافة التدابير والاحتياطات لمنع وقوع الضرر، وهو في حالتنا الآن منع السفر إلى البلاد الموبؤة بهذا المرض، أو منها بعد أن أثبت العلم أنه ينتقل من الحيوان إلى الإنسان ومن الإنسان إلى إنسان آخر وهكذا، ومن حق الحكومات أن تأخذ من التدابير الواقية والأسباب المتاحة ما تمنع به هذا الضرر، بعد التأكد من أنها لن تستطيع أن تمنع انتشار هذا المرض إلا بهذه الوسيلة.
وهذا القرار وإن ترتب عليه ضرر في المال أو العلم أو غيره فحماية النفس مقدمة على حماية المال وفق سلم الأولويات في شريعتنا الغراء.
الأساس الثاني: دفع الضرر:
وهذا الأساس يعمل عند وقوع الضرر فعلينا ببذل أقصى الجهد لدفع هذا الضرر، ومحاولة الحيلولة بينه وبين أن يحدث آثاره، وهو في حالتنا هذه توفير سبل الوقاية من انتقال المرض سواء من الحيوان للإنسان أو من إنسان إلى إنسان آخر، ونشر الوعي بين الناس لتجنب الإصابة وانتقال العدوى، والإسراع بتصنيع وتوفير العلاج الناجع من هذا المرض .
الأساس الثالث: رفع الضرر:
وهذا يحدث ـ لا قدر الله ـ إن وقع المرض بعد إعمال جانب المنع والدفع ووقوع المحذور بعد ذلك، ويعمل هنا على رفع الضرر بالقدر المستطاع وترميم آثاره حتى لا يلازم الناس طوال حياتهم.