الشطرنج -بكسر الشين وقد تفتح- لعبة تلعب على رقعة ذات أربعة وستين مربعًا، وتمثل دولتين متحاربتين باثنتين وثلاثين قطعة، تمثل الملكين والوزيرين والخيالة والقلاع والفيلة والجنود … (هندية) . هذا ما عرفها به “المعجم الوسيط”.
متى ظهر الشطرنج في الحياة الإسلامية:
اتفق العلماء من فقهاء ومفسرين ومحدثين وشراح على أنها لم تعرف عند العرب في زمن النبي -ﷺ-، وإنما عرفوها بعد الفتح (ذكر ذلك الحافظ الحجة ابن كثير في “إرشاده” كما في نيل الأوطار 8/259 ط دار المعرفة- بيروت)، فقد نقلوها عن الفرس الذين كانوا قد نقلوها عن الهنود.
قيمة الأحاديث الواردة فيه:
نظرًا؛ لأنه لم يكن في عصر النبوة لم يثبت عن النبي -ﷺ- حديث في شأنه، وإن رويت فيه أحاديث من نوع “إن لله عز وجل في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ليس لصاحب الشاه (الشاه بالفارسية هو: الملك. ومعروف في الشطرنج أن اللعبة تنتهي إذا قضى أحد الخصمين على ملك الآخر). منها نصيب” رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، وحكم الألباني بوضعه في “الإرواء” رقم “2671”.
ومثله ما رواه الديلمي عن ابن عباس رفعه: “ألا إن أصحاب الشاه في النار: الذين يقولون: قتلت والله شاهك”. وعن أنس مرفوعا: “ملعون من لعب بالشطرنج”. وعن علي مرفوعا: “يأتي على الناس زمان يلعبون بها، ولا يلعب بها، إلا كل جبار، والجبار في النار”.
قال الحافظ ابن كثير: والأحاديث المروية فيه لا يصح منها شيء ويؤيد هذا ما تقدم من أن ظهوره كان في أيام الصحابة. (ذكر هذه الأحاديث وتعقيب ابن كثير العلامة الشوكاني في: “نيل الأوطار” 8/259). ومن هنا لم يستدل أحد من الأئمة الذين ذهبوا إلى تحريمه بشيء من هذه الأحاديث، ولو كان لها قيمة علمية عندهم لاستندوا إليها، إنما استدل بها بعض المتأخرين.
وقال الإمام أحمد رغم تشديده فيه: أصح ما في الشطرنج قول علي -رضي الله عنه- (المصدر السابق)، يعني أنه لم يثبت فيه شيء مرفوع إلى النبي -ﷺ- وسيأتي أن قول علي نفسه غير ثابت عنه.
سبب الاختلاف في حكم اللعب بالشطرنج:
لعدم وجود نص شرعي في شأن لعبة الشطرنج يبين الحكم، ويحسم الأمر، اختلف الفقهاء في حكمه، ما بين مبيح له، وكاره، ومحرم، كمعظم المسائل التي لا توجد فيها نصوص بينه ملزمة، وهذا من فضل الله على الناس، ولطفه بهم، وتيسيره عليهم، أن سكت عن أشياء، رحمة بهم غير نسيان (وما كان ربك نسيًا). (مريم: 64).
قال العلامة ابن حجر الهيثمي في شرحه لمنهاج النووي، في شأن الأحاديث المحكية في ذم الشطرنج: (قال الحافظ: لم يثبت منها شيء من طريق صحيح ولا حسن.
وقد لعبه جماعة من أكابر الصحابة، ومن لا يحصى من التابعين ومن بعدهم. قال: وممن كان يلعبه غبا: سعيد بن جبير -رضي الله عنه- (تحفة المحتاج في شرح المنهاج، وحواشي الشرواني وابن قاسم عليها 10/217). ومعنى غبًا أي قليلاً.
أقوال الفقهاء في حكم اللعب بالشطرنج:
–مذهب الشافعية في الشطرنج:
مذهب الشافعية أكثر تيسيرًا في حكمه، كما هو مشهور عنهم.
قال الإمام النووي في “الروضة”: (اللعب بالشطرنج مكروه: وقيل: مباح لا كراهة فيه. ومال الحليمي إلى تحريمه، واختاره الروياني. والصحيح الأول) (الروضة 11/225 ط المكتب الإسلامي). يعني الكراهة، والظاهر: أنها الكراهة التنزيهية، فهذا هو المتبادر عند الشافعية. وهذا ما نص عليه في “المنهاج” أيضًا حيث قال: (ويحرم اللعب بالنرد على الصحيح، ويكره بشطرنج). (إنما قال: علي الصحيح لأنه في وجه آخر: أنه مكروه كما في الروضة ص 226). قال في “التحفة”: (ونازع البلقيني في كراهته بأن قول الشافعي: لا أحبه، لا يقتضيها). (التحفة مع حواشيها 10/216، 217).
وقال النووي في الروضة بعد أن صح القول بالكراهة: (فإن اقترن به قمار أو فحش أو إخراج صلاة عن وقتها عمدًا، ردت شهادته بذلك المقارن -أي لا باللعب نفسه- وإنما يكون قمارًا إذا شرط المال من الجانبين، فإن أخرج أحدهما ليبذله إن غلب، ويمسكه إن غلب، فليس بقمار، ولا ترد به شهادته، ولكنه عقد مسابقة على غير آلة قتال، فلا يصح، ولو لم تخرج الصلاة عن الوقت عمدًا، ولكن شغله اللعب به حتى خرج، وهو غافل، فإن لم يتكرر ذلك منه لم ترد شهادته، وإن كثر منه فسق، وردت شهادته، بخلاف ما إذا تركها ناسيًا مرارا؛ لأنه هنا شغل نفسه بما فاتت به الصلاة. هكذا ذكروه، وفيه إشكال، لما فيه من تعصية. (أي الحكم بأنه عاص؛ لأنه حينئذ غير معذور بغفلته ونسيانه).
وقد أجاب الإمام الشافعي في الأم عن هذا الاستشكال بقوله: فإن قيل: فهو لا يترك وقتها للعب إلا وهو ناس ! قيل: فلا يعود للعب الذي يورث النسيان، فإن عاد له وقد جربه أنه يورثه ذلك، فذلك استخفاف. (الأم 6/213 ط. الشعب القاهرة) . قال في التحفة: وحاصله أن الغفلة نشأت من تعاطيه للفعل الذي من شأنه أن يلهي عن ذلك، فكان كالمتعمد لتفويته. ويجري ذلك في كل لهو ولعب مكروه، ومشغل -أي شاغل- للنفس ومؤثر فيها تأثيرًا يستولي عليها، حتى تشتغل به عن مصالحها الأخروية بل يمكن أن يقال ذلك في شغل بكل مباح؛ لأنه كما يجب تعاطي مقدمات الواجب، يجب تعاطي ترك مفوتاته، والكلام فيمن جرب نفسه أن اشتغاله بذلك المباح يلهيه حتى يفوت به الوقت. أ هـ. التحفة 10/217). الغافل اللاهي، ثم قياسه الطرد في شغل النفس بغيره من المباحات). (الروضة 11/226).
والأولى أن نذكر هنا كلمة الشافعي بنصها من “الأم” قال رضي الله عنه: (يكره- من وجه الخبر- اللعب بالنرد أكثر مما يكره اللعب بشيء من الملاهي، ولا نحب اللعب بالشطرنج وهو أخف من النرد، ويكره اللعب بالحزة والقرق، وكل ما للعب الناس؛ لأن اللعب ليس من صنعة أهل الدين ولا المروءة، ومن لعب بشيء من هذا على الاستحلال له لم ترد شهادته، والحزة تكون قطعة خشب فيها حفر بها يلعبون بها، إن غفل به عن الصلوات فأكثر حتى تفوته ثم يعود له حتى تفوته، رددنا شهادته على الاستخفاف بمواقيت الصلاة، كما نردها لو كان جالسًا فلم يواظب على الصلاة من غير نسيان ولا غلبة على عقل). (الأم 6/213 ط الشعب).
–مذهب مالك في اللعب بالشطرنج:
وفي مذهب مالك نجد الإمام ابن رشد “الجد” ينقل عن العتيبية” في “البيان والتحصيل”: (سئل مالك عن اللعب بالشطرنج فقال: لا خير فيه وليس بشيء وهو من الباطل، واللعب كله من الباطل، لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب والسن عن الباطل، وقد قال عمر بن الخطاب لأسلم في شيء: أما آن أن تنهاك لحيتك هذه ؟ قال أسلم: فمكثت زمانًا طويلاً وأنا أظن أن ستنهاني). (البيان والتحصيل 18/436).
وسئل مالك أيضًا عن الرجل يلعب مع امرأته في البيت بالأربعة عشر، قال: ما يعجبني ذلك، وليس من شأن المؤمن اللعب، لقول الله تبارك وتعالى: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) (يونس: 32). وعلق على ذلك ابن رشد فقال: (الأربعة عشر قطع معروفة كان يلعب بها كالنرد، وهو النردشير الذي قال فيه رسول الله -ﷺ-: “من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله” (سيأتي تخريجه بعد). و “من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير” (سيأتي تخريجه بعد). وكذلك الشطرنج له حكمه، وقد قال فيه الليث بن سعد: إنه شر من النرد، فاللعب بشيء من ذلك كله على سبيل القمار والخطر لا يحل ولا يجوز بإجماع من العلماء؛ لأنه من الميسر الذي قال الله فيه: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) (المائدة: 93). وأما اللعب بشيء من ذلك كله علي غير وجه القمار فلا يجوز؛ لأن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: “من لعب بالنرد فقد عصي الله ورسوله” فعم ولم يخص قمارًا من غيره. فمن أدمن اللعب بشيء من ذلك كله كان قدحًا في إمامته وشهادته، وقد كان عبد الله بن عمر إذا رأى أحدًا من أهله يلعب بالنرد ضربه وكسرها.
وبلغ عائشة رضي الله عنها: أن أهل بيت في دارها كانوا سكانًا فيها عندهم النرد، فأرسلت إليهم: “لئن لم تخرجوه لأخرجنكم من داري” وأنكرت ذلك عليهم، ذكر ذلك مالك في موطئه. قال: ولا فرق في ذلك كله بين لعب الرجل به مع أجنبي في بيته أو في غير بيته، وبين لعبه به مع أهله في بيته. إن كان على الخطار والقمار، فذلك حرام بإجماع، وإن كان على غير القمار فهو من المكروه الذي تسقط شهادته من أدمن اللعب به، وهو الذي قال مالك فيه في هذه الرواية: ما يعجبني ذلك، وليس من شأن المؤمن اللعب، لقول الله تبارك وتعالى: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) فهذا من الباطل، وبالله تعالي التوفيق). (البيان والتحصيل 17/577، 578). وكلمة “الباطل” لا تعني أنه حرام، بل تعني أنه من اللهو واللعب وليس كل لهو ولعب حرامًا، وإن قال بذلك بعض المالكية، وأخذا من كلام مالك (انظر: الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي عليه). وهو لا يفيد ذلك. كيف وهو يقول عن الشطرنج: لا خير فيه، وليس بشيء، ولا يعجبني، وأنه لا يليق بذي اللحية والشيب والسن، وهذا كله لا يدل على أكثر من الكراهية التنزيهية.
–مذهب الحنابلة: في اللعب بالشطرنج:
وأما مذهب الحنابلة، فيعبر عنه الإمام ابن قدامة في “المغني” فيقول: (كل لعب فيه قمار فهو محرم، أي لعب كان، وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه، ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته، وما خلا من القمار- وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما- فمنه ما هو محرم، ومنه ما هو مباح، فأما المحرم فاللعب بالنرد، وهذا قول أبي حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: هو مكروه غير محرم. واستدل ابن قدامة لمذهبه بالحديثين اللذين ذكرهما ابن رشد من قبل. قال: (إذا ثبت هذا، فمن تكرر منه اللعب به لم تقبل شهادته، سواء لعب به قمارًا أو غير قمار، وهذا قول أبي حنيفة ومالك وظاهر مذهب الشافعي. فأما الشطرنج فهو كالنرد في التحريم، إلا أن النرد أكد منه في التحريم؛ لورود النص في تحريمه، لكن هذا في معناه، فيثبت فيه حكمه، قياسًا عليه.
وذكر القاضي حسين: ممن ذهب إلى تحريمه: علي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والقاسم، وسالمًا، وعروة، ومحمد بن علي بن الحسين، ومطر الوراق، ومالكًا، وقول أبي حنيفة. وذهب الشافعي إلى إباحته، وحكي ذلك أصحابه عن أبي هريرة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، واحتجوا بأن الأصل الإباحة، ولم يرد بتحريمها نص، ولا هي في معنى المنصوص عليه، فيبقى على الإباحة.
ويفارق الشطرنج النرد من وجهين:
أحدهما: أن في الشطرنج تدبير الحرب، فأشبه اللعب بالحراب، والرمي بالنشاب والمسابقة بالخيل.
والثاني: أن المعول في النرد علي ما يخرجه الكعبتان، فأشبه الأزلام والمعول في الشطرنج على حذقه وتدبيره، فأشبه المسابقة بالسهام.
ولنا قول الله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه). (المائدة: 90). قال علي رضي الله عنه: الشطرنج من الميسر. ومر علي -رضي الله عنه- على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) . قال أحمد: أصح ما في الشطرنج قول علي رضي الله عنه. وروي واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: “إن الله عز وجل ينظر في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ليس لصاحب الشاه فيها نصيب” رواه أبو بكر بإسناده؛ ولأنه لعب يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، فأشبه اللعب بالنرد. وقولهم: لا نص فيها، قد ذكرنا فيها نصًا، وهي أيضًا في معنى النرد المنصوص على تحريمه، وقولهم: إن فيها تدبير الحرب، قلنا: لا يقصد هذا منها، وأكثر اللاعبين بها إنما يقصدون منها اللعب أو القمار، وقولهم: إن المعول فيها على تدبيره، فهو أبلغ في اشتغاله بها وصدها عن ذكر الله والصلاة.
إذا ثبت هذا؛ فقال أحمد: النرد أشد من الشطرنج، وإنما قال ذلك لورود النص في النرد، والإجماع على تحريمه، بخلاف الشطرنج، وإذا ثبت تحريمه فقال القاضي: هو كالنرد فرد الشهادة به، وهذا قول مالك وأبي حنيفة. (قد نقلنا أقوال المذهبين من قبل)؛ لأنه محرم مثله. وقال أبو بكر: إن فعله من يعتقد تحريمه فهو كالنرد في حقه، وإن فعله من يعتقد إباحته لم ترد شهادته، إلا أن يشغله عن الصلاة في أوقاتها، أو يخرجه إلى الحلف الكاذب، ونحوه من المحرمات، أو يلعب بها على الطريق، أو يفعل في لعبه ما يستخف به من أجله ونحو هذا مما يخرجه عن المروءة، وهذا مذهب الشافعي، وذلك لأنه مختلف فيه، فأشبه سائر المختلف فيه). (المغني 9/172، 173 المطبعة اليوسفية).
أدلة القائلين بتحريم الشطرنج:
تلك هي مذاهب الأئمة، وأقوال الفقهاء، في حكم الشطرنج، وهي تختلف ما بين الإباحة بشروط والكراهة، والتحريم. وإذا نظرنا إلى ما استند إليه الذين شددوا ومالوا إلى التحريم، نجد أدلتهم تتركز فيما يلي: قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) . وقول علي: “الشطرنج من الميسر”. ما ورد من أحاديث في ذم الشطرنج والوعيد عليه، ولعن أهله، مثل ما ذكره ابن قدامة في “المغني”، وما ذكرناه من قبل مما رواه ابن أبي الدنيا والديلمي وغيرهما. ما ورد في النهي عن “النرد” أو “النردشير” مثل: حديث أبي موسي: “من لعب النردشير فقد عصي الله ورسوله”. (الحديث أخرجه مالك في الموطأ 2/958/6 وأحمد في المسند 4/394، 397، 400، وأبو داود (4938)، وابن ماجة (3762)، والحاكم 1/50 وصححه علي شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. كما رواه البخاري في كتاب الأدب المفرد). وكذلك حديث بريدة: “من لعب النردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه”.(رواه مسلم في كتاب الشعر برقم (2260) وأبو داود (4939) وابن ماجة 3763) . والنردشير هو: النرد. فارسي معرب. وشير معناه: حلو.
وقد انعقد الإجماع على تحريم النرد، قامر به، أو لم يقامر. حديث: “كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه وملاعبته أهله، فإنهن من الحق”. (رواه الترمذي (1637) عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، وهو مرسل، وفيه عنعنة ابن إسحاق، لكنه روي عن عتبة بن عامر مثله، وإن لم يذكر لفظه، وقال: حسن صحيح، وهو عند أبي داود (2513) والنسائي في الجهاد، وابن ماجة (2811) ووصفه العراقي في تخريج الإحياء بأنه مضطرب).
والشطرنج خارج عن هذه الثلاثة، فهو باطل، والباطل حرام. ما جاء عن الصحابة أنهم أنكروه، ومنه ما روي أن عليًا -رضي الله عنه- مر على قوم يلعبون الشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) !. القياس علي النرد، فكلاهما لهو ولعب، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، بل ذهب بعضهم إلى أن الشطرنج شر من النرد في هذا؛ لأنه يشغل فكر صاحبه وقلبه أكثر مما يشغله النرد.
مناقشة أدلة المحرمين:
والمتأمل في هذه الأدلة التي اعتمد عليها القائلون بتحريم الشطرنج، يجد أن شيئًا منها لا يثبت للنقد، ولا يمكن أن يعتمد عليه في التحريم الذي ينبغي الاحتياط فيه، حتى لا نحرم ما أحل الله. آية سورة المائدة: فأما الاستدلال بأية سورة المائدة التي دلت علي تحريم الخمر والميسر، فلا نزاع في أن الميسر محرم كالخمر، وفيه إثم كبير بنص القرآن، فهو من الكبائر، وليس مجرد حرام. ولكن أين الدليل على أن الشطرنج من الميسر ؟ سيقولون: قول علي: إنه من الميسر، وسيأتي أن هذا القول عن علي لم يثبت. علي أنه لو سلمنا بثبوته لحمل على أنه من الميسر إذا لعب على قمار، لا لمجرد اللهو والتسلية. أحاديث ذم الشطرنج والوعيد عليه: أما أحاديث ذم الشطرنج والوعيد الشديد عليه، ولعن فاعله .. إلخ، فقد بين الأئمة من نقاد الحديث أن شيئًا منها لم يثبت، ولم يقل إمام من أئمة الحديث بصحة حديث واحد منها، ولا بحسنه، وقد نقلنا قول الإمام أحمد، وقول ابن كثير وغيرهما.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رغم تشدده جدًا في أمر الشطرنج لم يستدل بحديث واحد منها إنما اعتمد على أنه يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة.
أحاديث تحريم النرد:
فأما الأحاديث التي دلت على تحريم النرد، فنحن نسلم بها، وإن كان الحديث الأول عن أبي موسي في سنده انقطاع، وقد روي موقوفًا من قوله كما ذكر ابن كثير في تفسير آية: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام …) وله شاهد لم يسلم من مقال، ولهذا قال الشيخ الألباني في تخريج منار السبيل: لا بأس به في الشواهد والمتابعات “حديث 2670”. ويكفينا حديث بريدة عند مسلم: “فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه” وغمس اليد في لحم الخنزير مقدمة إلي أكله، وفيه إشارة إلي التحريم، كما قال الشوكاني؛ لأن التلوث بالنجاسات من المحرمات (نيل الأوطار 8/258 ط. دار المعرفة، بيروت)؛ ولأنه قد يؤدي إلى الميسر، وهو من الكبائر.
والمذاهب الأربعة وجمهور العلماء مجمعون على تحريم النرد، قال الشوكاني: (وقد كرهها عامة الصحابة، وروي أنه رخص فيها ابن المسيب وابن مغفل علي غير قمار). (نفسه ص 259). وكلام الإمام الشافعي الذي نقلناه من قبل لا يدل على تحريمه. وقد صرح بعض الشافعية بكراهته فقط. وعلى كل حال فتحريم النرد هو الراجح، وأنا لا أنازع فيه، ولكن الذي أنازع فيه أن يقال: الشطرنج هو النرد، أو هو منه. فالنرد لعبة معروفة من لعب الفرس، وقد نقلت إلي العرب قبل الإسلام، وعرفوها، ولهذا جاءت فيها أحاديث وآثار صحاح وحسان. وهو الذي يسمي (الزهر) ويطلق عليه في مصر “الطاولة” قال في المعجم الوسيط: النرد لعبة ذات صندوق وحجارة وفصين، تعتمد علي الحظ، وتنتقل فيها الحجارة علي حسب ما يأتي به الفص: الزهر. وتعرف عند العامة بـ “الطاولة”.
أما الشطرنج، فهو لعبة أخرى أصلها من الهند، ونقلت إلي فارس، ولم يعرفها العرب إلا بعد الفتح. حديث: “كل ما يلهو به المسلم باطل .. “: أما حديث: “كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل، إلا ..” فالباطل هنا ليس معناه الحرام كما قد يتوهم، وإنما الباطل ما ليس فيه فائدة دينية في ذاته، فهو أشبه بكلمة “اللغو”. ولا ريب أن اشتغال المسلم بالحق وبالأمور النافعة أولى وأجدي، لما وصف به الله المؤمنين، بقوله: (والذين هم عن اللغو معرضون) المؤمنون: 3.
ولكن لا يعني هذا أن اللهو أو اللعب بغير الأمور الثلاثة المذكورة حرام؛ فقد لعب الحبشة ورقصوا في مسجده -صلي الله عليه وسلم- يوم العيد وهو ينظر إليهم ويشجعهم، وعائشة معه تنظر إليهم. وقد حث عليه الصلاة والسلام أن يكون مع العرس لهو، إشاعة للبهجة والفرح حتي لا يكون عرسًا صامتًا. وشرع المصارعة والمسابقة علي الأقدام كمسابقته لعائشة، كما سبق بين الخيل وأعطي السابق. وكلها خارج عن الثلاثة المذكورة. وفي هذا المعني حديث آخر رواه النسائي في “كتاب عشرة النساء” والطبراني في “الكبير” عن جابر بن عبد الله، وجابر بن عمير الأنصاريين مرفوعًا بلفظ “كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لغو ولهو، أو سهو، إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعلم السباحة”. (وجود المنذري في: “الترغيب” إسناده بعد أن عزاه للطبراني، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال الطبراني رجال الصحيح، خلا عبد الوهاب بن بخت، وهو ثقة 6/269 وذكره الألباني في: سلسلة الأحاديث الصحيحة 315).
والنص هنا وضع كلمة “لغو ولهو” أو “سهو” موضع كلمة “باطل” في الحديث الآخر، مما يحدد المقصود بها، كما أضاف الحديث هنا إلى الثلاثة رابعًا وهو “السباحة” مما يدل على أن الحصر في الثلاثة غير مراد. وقد جاء عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- وهو من زهاد الصحابة ونساكهم: إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل، ليكون أقوى لها على الحق. وواضح أن مراده بالباطل هنا هو: اللهو واللعب، فهو يستعين به علي تنشيط نفسه للحق، بعد أن تأخذ شيئًا من الاستجمام والراحة، كما قال الشاعر: والنفس تسأم إن تطاول جدها فاكشف سآمة جدها بمزاح وقال الإمام أبو حامد الغزالي في كتاب “السماع” من “إحيائه” في الرد على من احتجوا بالحديث المذكور على تحريم الغناء كله: (قوله: “باطل” لا يدل علي التحريم، بل يدل علي عدم الفائدة، وقد يسلم ذلك، على أن التلهي بالنظر إلي الحبشة خارج عن هذه الثلاثة، وليس بحرام، بل يلحق بالمحصور غير المحصور، كقوله -صلي الله عليه وسلم-: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدي ثلاث ..” فإنه يلحق به رابع وخامس. فكذلك ملاعبة امرأته لا فائدة له إلا التلذذ، وفي هذا دليل علي أن التفرج في البساتين، وسماع أصوات الطيور وأنواع المداعبات، مما يلهو به الرجل لا يحرم عليه شيء منها، وإن جاز وصفه بأنه باطل). (إحياء علوم الدين 2/285 ط دار المعرفة- بيروت، وانظر ما نقلناه عنه حول ذلك في فتوي “الغناء”).
وما قاله ابن حزم في الرد على من قال: الغناء ليس من الحق فهو إذن من الباطل، من أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي يقال هنا أيضًا. فمن نوى باللعب ترويح النفس واستجمامها، لتستطيع مواصلة السير علي طريق الحق، واحتمال أعبائه وما أثقلها ! فهو محسن مأجور كما يؤجر في كل المباحات بنيته. ومن لم يقصد إلا الترويح والترفيه دون أن يخطر بباله الاستعانة على الطاعة، فقد أتى أمرًا مباحًا بشروطه. ما جاء عن الصحابة في ذمه:
-وأما ما جاء عن الصحابة، فليس فيها أثر متصل صحيح. وقد ذكر الحافظ السخاوي في كتابه: “عمدة المحتج في حكم الشطرنج” أن الإمام أحمد قال: أصح ما في الشطرنج قول علي رضي الله عنه. وقول علي يحتمل قوله حين مر علي لاعبي الشطرنج: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) ؟ ! ويحتمل ما رواه عنه جعفر بن محمد عن أبيه: الشطرنج من الميسر. والأول ليس له إسناد صحيح أو حسن متصل، كما بين ذلك العلامة الألباني في “إرواء الغليل” بأن هذا الأثر لا يثبت عن علي، وأن خير أسانيده منقطع. (إرواء الغليل 8/288، 289 حديث 2672). على أن هذا الأثر لو صح لا يفيد التحريم جزمًا، إنما يفيد مجرد الإنكار علي الاشتغال بهذا اللهو، وإلا لو كان حرامًا ومنكرًا، لغيره بيده، فهو الإمام المسئول وبيده السلطة.
-وأما الأثر الثاني فقد نقل الشوكاني عن ابن كثير قوله: هو منقطع جيد (نيل الأوطار 8/259). ولا حجة في منقطع لو كان مرفوعًا، فكيف وهو موقوف ؟ وقول الإمام أحمد: أصح ما في الشطرنج قول علي، لا يدل علي أنه صحيح عنده، بل يعني أنه أحسن من غيره، وإن كان ضعيفًا في نفسه، كما بين ذلك المحققون في قولهم: أصح ما في الباب كذا، أي أقل ضعفًا. وما روي عن الصحابة في ذلك يعارض بعضه بعضًا، فقد روي عن ابن عباس وابن عمر وأبي موسي الأشعري وأبي سعيد وعائشة: أنهم كرهوه. ورويت إباحته عن ابن عباس وأبي هريرة، وأضيف إليهم من التابعين ابن سيرين وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومن بعدهم هشام بن عروة بن الزبير. (المصدر السابق). ولا حجة في قول أحد دون رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، ما لم يجمعوا علي أمر، فإنهم لا يجتمعون علي ضلالة.
ولم يثبت في الشطرنج بخصوصه حديث مرفوع بوجه، وقد ذكرنا من قبل قول الحافظ ابن كثير: (والأحاديث المروية فيه لا يصح منها شيء، ويؤيد هذا ما تقدم من أن ظهوره كان في أيام الصحابة). (المصدر السابق). القياس على النرد: وأما من احتج علي تحريمه بقياسه علي النرد باعتبار علة التحريم هي اللهو واللعب، أو باعتباره شرًا من النرد باعتبار العلة الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهو أبلغ من النرد في ذلك -فهذا غير مسلم؛ لأنه قياس مع الفارق؛ فقد فارق النرد- كما قالوا- بأن الشطرنج معتمده الحساب الدقيق، والفكر الصحيح، ففيه تشحيذ الفكر، ونوع من التدبير، ومعتمد النرد الحدر والتخمين المؤدي إلى غاية من السفاهة والحمق. وقد قاسوا عليهما كل ما في معناهما من أنواع اللهو، فكل ما معتمده الحساب والفكر لا يحرم، وكل ما معتمده التخمين يحرم (انظر: تحفة المحتاج شرح المنهاج لابن حجر وحواشي الشرواني وابن قاسم عليه 10/216). فالمعول في النرد علي ما يخرجه الفصان، فأشبه الأزلام. والمعول في الشطرنج على حذقه وتدبيره، فأشبه المسابقة بالسهام. كما أضافوا إلي ذلك أنه يعين على تدبير الحرب، وإدراك المعارك، فأشبه اللعب بالحراب، والرمي بالنشاب، والمسابقة بالخيل. وهذا في الحقيقة غير مسلم؛ فليس هناك ارتباط بين إتقان لعبة الشطرنج وإتقان فن الحرب، وإدارة رحي القتال، وأمهر اللاعبين للشطرنج ربما لا يدري في فن الحرب شيئًا ! وحسبنا الفرق الأول، وهو مؤثر وكاف.
والقول بأنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة غير مسلم أيضًا، ما دام من يقول بإباحته يقيدها بشرط ألا يشغله عن الصلاة، أو أي واجب آخر ديني أو دنيوي. وكثير من المباحات إذا استرسل الإنسان فيها، وخصوصًا المحببة منها إلى النفس، تشغل وتلهي عن ذكر الله، وعن الصلاة وعن الواجبات، وإذا لم يكن المسلم نير البصيرة، قوي الإرادة، ولكن هذا لا يجعلها محظورة بإطلاق، بل تباح بقيد عدم الإسراف فيها والاشتغال بها عما أوجب الله عليه. فلو أن مسلمًا كان في أجازة ولديه فراغ وقت، فخصص للعب به وقتًا معينًا ليس فيه صلاة مفروضة كوقت الضحى -من التاسعة إلى الحادية عشرة مثلا- لم يكن في ذلك منع ولا تحريم، لا سيما أن بعض الناس يشتغل بها عن الغيبة والقيل والقال، مما يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب. وكم تأتي على الإنسان ظروف لا يجد فيها ما يشغل فراغه، إلا مثل هذا النوع من اللهو.
خلاصة القول في حكم اللعب بالشطرنج:
خلاصة القول الذي انتهى إليه البحث والنظر في الأقوال والأدلة هو الترجيح أن يكون الأصل في حكم الشطرنج هو الإباحة بالقيود والشروط التي ذكرها الشافعية والحنفية في كتبهم، وهي:
-ألا يلعب بقمار، وإلا كان حرامًا، بل من الكبائر باتفاق.
-ألا يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة، أو أي واجب ناجز من أمور الدين والدنيا.
-أن يمتنع من فحش القول ورديء الكلام وكثرة الحلف الذي يحدث كثيرًا بين اللاعبين.
-ألا يلعب به على الطريق، لما فيه من الإخلال بالمروءة.
-ألا يكثر منه بحيث يصل إلى درجة الإدمان، الذي يشبه -إلى حد ما- إدمان الشرب.
وبعبارة أخري موجزة: ألا يؤدي إلي ترك واجب أو يستلزم فعل محرم، أو يخرج به عن حدود الاعتدال إلي الإسراف والإدمان، فإن الله لا يحب المسرفين.
نختم هنا بكلمة مشرقة للعلامة رشيد رضا في تفسير المنار قال رحمه الله: (إن اللعب بالشطرنج إذا كان على مال دخل في عموم الميسر، وكان محرمًا بالنص كما تقدم، وإذا لم يكن كذلك فلا وجه للقول بتحريمه، قياسًا على الخمر والميسر، إلا إذا تحقق فيه كونه رجسًا من عمل الشيطان، موقعًا في العداوة والبغضاء، صدًا عن ذكر الله وعن الصلاة، بأن كان هذا شأن من يلعب به دائمًا أو في الغالب. ولا سبيل إلى إثبات هذا، وإننا نعرف من لاعبي الشطرنج من يحافظون على صلواتهم، وينزهون أنفسهم عن اللجاج والحلف الباطل. وأما الغفلة عن الله تعالى فليست من لوازم الشطرنج وحده، بل كل لعب وكل عمل فهو يشغل صاحبه في أثنائه عن الذكر والفكر فيما عداه إلا قليلاً، ومن ذلك ما هو مباح وما هو مستحب أو واجب. كلعب الخيل والسلاح والأعمال الصناعية التي تعد من فروض الكفايات، ومما ورد النص فيه من اللعب لعب الحبشة في مسجد النبي -ﷺ- بحضرته، وإنما عيب الشطرنج أنه من أشد الألعاب إغراء بإضاعة الوقت الطويل، ولعل الشافعي كرهه لأجل هذا، ونحمد الله الذي عافانا من اللعب به وبغيره، كما نحمده حمدًا كثيرًا أن عافانا من الجرأة على التحريم والتحليل، بغير حجة ولا دليل). (تفسير المنار 8/62، 63).