تختلف الكرامة عن المعجزة في أن المعجزة أمر خارق للعادة يظهره الله تعالى على يد نبي من أنبيائه لتقوم به الحجة على من كذَّبه.
يقول الدكتور محمد البوطي في كتاب فقه السيرة (466-477) :
المعجزة التي تحصل على يد النبي إنما تكون مقترنة بدعوى النبوة والتحدي بها على صدق دعواه ، وليس السحر كذلك فلا يمكن أن يتم من يد الساحر مع دعوى أنه نبي ، هذا إلى أن سلطان السحر محدود فهو وإن كان له حقيقة غير أن حقيقته لا تتجاوز حدودا معينة ولا يمكن أن يتوصل به إلى قلب الحقائق وتبديل جواهر الأشياء ، ولذلك عبر الله سبحانه وتعالى عن السحر الذي صنعه سحرة فرعون بقوله :( فَإذَا حِبالُهُمْ وَعِصِيِّهم يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أنَّـهَا تَسْعَى) (طه 66). إذن الأعين هي التي سحرت وليست الحبال والعصي ، وهذا يؤكد أن مناط السحر دائما هو جسم الإنسان أو حواسه أو جوارحه تظهر بسببه بعض المرئيات على غير حقيقتها.
ما هو الفرق بين المعجزة والكرامة والسحر:
يقول الإمام النووي في صحيح مسلم بشرح النووي (14، 175-176):
“العادة تنخرق على يد النبي والولي والساحر ، لكن النبي يتحدى بها الخلق ويستعجزهم عن مثلها ويخبر عن الله بخرق العادة بها لتصديقه ، فلو كان كاذبا لم تنخرق العادة على يديه ، ولو خرقها الله على يد كاذب لخرقها عل يد المعارضين للأنبياء.
وأما الولي والساحر فلا يتحديان الخلق ولا يستدلان على نبوة ، ولو ادعيا شيئا من ذلك لم تنخرق العادة لهما.
وأما الفرق بين الولي والساحر فمن وجهين:
أحدهما: وهو المشهور ، إجماع المسلمين على أن السحر لا يظهر إلا على فاسق ، والكرامة لا تظهر على فاسق ، وإنما تظهر على ولي .. وبهذا جزم إمام الحرمين وأبو سعد المتولي وغيرهما.
الثاني: أن السحر بفعل وبمزج وبمعاناة ، والكرامة لا تفتقر إلى ذلك وفي كثير من الأوقات يقع ذلك (أي الكرامة) اتفاقا من غير أن يستدعيه أو يشعر به والله أعلم”.
وفي كتاب “الغلو في الدين ـ غلو التطرف وغلو التصوف” للشيخ الصادق عبد الرحمن الغرياني – أستاذ الشريعة بالجامعات الليبية يقول :ـ
ولا تكون الكرامة إلا لما كان له أصل في معجزات الرسول صلى الله عليه و سلم فإن لم يكن للكرامة أصل في المعجزة فهي غير صحيحة وإن بدت للناظر كرامة. من ذلك ما يظهر على من يستعمل الأدعية التي روعيت فيها طبائع الحروف ، والتصريف بالهمم بتسليطها على الأشياء حتى تنفعل ، فليس لهذا أصل في النبوة وإنما أصله عند الفلاسفة. وما ظهر منه فليس بكرامة وإنما هو باطل محض قد يتوصل إليه بالسحر أو بالعين.
والكرامة لا يعتد بها ولا نسمي كرامة إلا إذا كانت وفق الشرع ، فإن أتت بما حرمه الشرع أو نهى عنه فهي ليست بحق ولا كرامة. فالكرامة برؤيا أو غيرها هي أمر خارق للعادة وليست أمرا خارقا للشرع ، لأن الكرامات منح من الله تعالى تنتجها الأعمال الصالحة والتقوى. فأهل العلم لا يعتبرون بأي كشف أوخطاب أو رؤيا تخالف الشرع ، بل يعدون ما يخالف الشرع من الشيطان ، وكل كرامة أو رؤيا تصدر عن غير الأنبياء، لا تقبل إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة ، فإن وافقت أحكام الشريعة فهي صحيحة ، وإلا فهي مردودة لقول النبي e: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدُّ”، أي مردود (البخاري 2697).
الفرق بين كرامات الأولياء والخوارق الشيطانية:
يقول الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية في “الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان” (142-141):
وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله ﷺ فهي في الحقيقة تدْخل في معجزات الرسول صلى الله عليه و سلم .. وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فرؤق متعددة منها أن كرامات الأولياء سببها الإيـمان والتقوى .. والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله.
والحكمة من وقوع الكرامة تقوية إيمان الولي ورفع درجته ، لحاجته إليها ، تعظيما لأمر الله ، وإحقاقا للحق ، لتكون حجة في الدين ومصلحة للمسلمين ، وإرهابا ودحرا للفجرة والظالمين ، فتزداد بذلك هيبة الدين ، وتقوى الله في نفوس الخلق . وليس من أغراض الكرامة أن يتحدث بها الولي عن نفسه ، لتعظم منزلته عند الناس.
هل الكرامة جائزة وأمثلة عليها:
الكرامة أمر جائز الوقوع للمؤمنين المتقين ، والأخبار عن صحتها ووقوعها لأولياء الله تعالى الصالحين من الصحابة ومن بعدهم ثابت بالنقل الصحيح ، وبعضه متواتر مستفيض.
ومن أمثلته:ـ
* كان أبو بكر رضي الله عنه من أهل الكرامات فقد نزلت البركة في طعام ضيوف آل أبي بكر، ففي رواية ابنه عبد الرحمن للحديث ، قال: “وايم الله ما كنا نأخذ من اللقمة ربا من أسفلها أكثر منها ، حتى شبعوا، وصارت أكثر مما كانت قبل”. حتى قالت له امرأته عندما نظرت إلى بقية الطعام بعد إن شبع الضيوف: “لهي الآن أكثر من ذي قبل بثلاث مرات”. وفي سنن الترمذي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: “إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه” (الترمذي 3682) .
* وفي الصحيح عن أسيد بن حضير: “بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة ، وفرسه مربوط عنده، إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكنت الفرس ، ثم قرأ فجالت. وكان ابنه يحيى قريبا منه فأشفق أن تصيبه ، فأخذه من مكانه خشية أن تصيبه ، قال: فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظُّـلَّة فيها أمثال المصابيح ، فخرجَت حتى لا أراها. فلما أصبح حدَّث النبي صلى الله عليه و سلم فقال له: وتدري ما ذاك؟ قال: لا ، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك ، ولو قرأتَ لأصبحت ينظر الناس إليها ، لا تتوارى منهم (البخاري مع فتح الباري 10/349).
* وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه “أن أُسَيد بن حُضير وعبَّاد بن بشر خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم في ليلة مظلمة ، وإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا ، فتفرق النور معهما” (البخاري مع فتح الباري 7/407).
* وكان أنس بن النضر ممن لو أقسم على الله لأبره كما جاء في حديث البخاري (البخاري مع فتح الباري 6/234). وكذلك كان البراء بن مالك إذا اشتد الكرب على المسلمين في الجهاد ، قالوا: يا براء أقسم على ربك. فلما كان يوم “تُستَر” من بلاد فارس، انكشف الناس (أي كادوا ينهزمون) فقال المسلمون: يا براء، أقسم على ربك، فقال: أُقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم،…….
* وذكر في سير أعلام النبلاء (4/7) أن أبو مسلم الخولاني (ت 62 هـ) دعاه الأسود العنسي الكذاب ، وقال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال ما أسمع ، قال أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم ، فألقاه في النار، فتحولت عليه بردا وسلاما ، فوجدوه فيها قائما يصلي. قدم عمر رضي الله عنه فأكرمه وفرح به ، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيت من أمة محمد صلى الله عليه و سلم من فُعل به كما فُعل بإبراهيم خليل الله.
* وأمر الحجاج جنده أن يأتوا بالحسن البصري ، فدخلوا عليه مرارا وهو يدعو الله عز وجل ، فلم يبصروه.
* وكان لأبي الصهباء (صلة بن أشيم ، ت 62 هـ) فرس مات وهو في الغزو فقال: اللهم لا تجعل لمخلوق عليّ منّة ، فأحيا الله له فرسه حتى وصل بيته، ثم قال لإبنه: يا بني خذ سرج الفرس فإنه عارية، فأخذه ومات الفرس.
* وكان مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير (ت 86 هـ) إذا دخل بيته سبحت معه آنيته.
* وكان إبراهيم بن يزيد التيمي (ت 92 هـ) يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئا.
* وفي الصحيحين أن عمران بن حصين كانت به بواسير ، فكان يصبر على ألمها فكانت الملائكة تسلم عليه ، قال : “حتى اكتويت ، فتُركْتُ ، ثم تركت الكي فعاد” (مسلم 2/899).
* وكان عامر بن عبد الله بن قيس ممن تخرج على أبي موسى الأشعري في النسك والعبادة ، ومنه تلقن القرآن. فكان يأخذ عطائه ألفي درهم ، وما يلقاه سائل في الطريق إلا أعطاه من غير عد ولا حساب ، فإذا رجع إلى بيته وجدها لم تنقص شيئا.
* ومر عامر بقافلة كان قد حبسهم الأسد ، فلم يقدروا على المرور ، فجاء إلى الأسد حتى وضع رجله على عنقه وقال له: إنما أنت كلب من كلاب الرحمن. وكان يقول والله إنني لأستحي من الله تعالى أن أخاف شيئا غيره.