من الأمور المتفق عليها في الأديان والعقول السليمة أن الصدق فضيلة والكذب رذيلة ،والصدق هو التعبير المطابق للواقع قولا أو فعلا ، والكذب هو التعبير المخالف للواقع ، قولا أو فعلا ، ومن أخطر الكذب في القول شهادة الزور ، وفي الفعل النفاق ، والوعيد عليهما شديد في القرآن والسنة.ولا يرخص في الكذب إلا لضرورة شأن كل حرام ، فالضرورات تبيح المحظورات والضرورة تقدر بقدرها ، بمعنى أن يكون ذلك فى أضيق الحدود إذا لم توجد وسيلة أخرى تحقق الغرض وتمنع الضرر .
ومن هذة الوسائل المشروعة ما يسمى بالمعاريض حيث تستعمل كلمة تحمل معنيين ، يفرض على الأنسان أن يقولها ، فيقولها بالمعنى الحلال لا بالحرام ، ومثلوا لها بما إذا قيل للإنسان : اكفر بالله ، فيقول : كفرت باللاهي ، ويريد الشيطان وما يشبهه من كل ما يلهى.
وقد صح في الحديث جواز الكذب لتحقيق مصلحة دون مضرة للغير تذكر ، وذلك فيما رواه البخاري ومسلم عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت : سمعت رسول الله ﷺ يقول ( ليس الكذب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا ) وفي رواية زيادة هي : قالت : ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث ، تعني الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها ، والمراد بالحديث بين الزوجين هو عن الحب الذي يساعد على دوام العشرة ، والشواهد عليه كثيرة وليس في أمور أخرى تضر بالحياة الزوجية.
ورأى بعض العلماء الاقتصار في جواز الكذب على ما ورد به النص فى الحديث ، ولكن جوزه المحققون في كل ما فيه مصلحة دون مضرة للغير.
يقول ابن الجوزي ما نصه :وضابطه أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحا ،وإن كان واجباً فهو واجب.
وقال ابن القيم فى ( زاد المعاد ) ج 2 ص 145 : يجوز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه ، كما كذب الحجاج بن علاط على المشركين حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت بالمسلمين من ذلك الكذب ، وأما ما نال من بمكة من المسلمين من الأذى والحزن فمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب….، إلى أن قال : ونظير هذا الإمام والحاكم يوهم الخصم خلاف الحق ليتوصل بذلك إلى استعمال الحق ، كما أوهم سليمان بن داود عليهما السلام إحدى المرأتين بشق الولد نصفين ، حتى يتوصل بذلك إلى معرفة عين أمه. انتهى.
ومنه كذب عبد الله بن عمرو بن العاص على الرجل الذي أخبر النبي ﷺ أنه من أهل الجنة. فلازمه أياما ليعرف حاله ، وادعى أنه مغاضب لأبيه ، رواه أحمد بسند مقبول ( الترغيب والترهيب ج 3 ص 219 ) ويقاس عليه حلف اليمين لإنجاء معصوم من هلكة ، واستدل عليه بخبر سويد بن حنظلة أن وائل بن حجر أخذه عدوا له فحلف أنه أخوه ، ثم ذكروا ذلك للنبي ﷺ فقال ( صدقت ، المسلم أخو المسلم ) الآداب الشرعية لابن مفلح ، ويمكن الرجوع في استيضاح هذه النقطة إلى ( نيل الأوطار للشوكانى ج 8 ص 85 ) وإلى ( إحياء علوم الدين للإمام الغزالى ج 7 ص 119 ).
ومن هذا الباب كذبات إبراهيم عليه السلام ، وهي معاريض ، حيث قال عندما كسر الأصنام ( بل فعله كبيرهم هذا ) وعندما طلب لمشاركتهم في العيد ( إني سقيم ) وقوله عن زوجته : إنها أخته لينقذها من ظلم فرعون ( مصابيح السنة للبغوى ج 25 ص 157 ) المسألة لها جوانب متعددة.
ونخلص إلى أن الكذب الأبيض هو الذى لا يترتب عليه ضرر وتتحقق به مصلحة مشروعة ، وهو جائز ولكن ينبغي أن يكون في أضيق الحدود ، لما فيه من ضرر للغير ولو كان بسيطا في نظر الكاذب فقد يكون كبيرا في نظر المكذوب عليه وفي المعاريض مندوحة عنه ، وكذلك في المداراة التي هي بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا ، وهي خلاف المداهنة التي يمكن معرفة الفرق بينهما من كتاب : المواهب اللدنية للقسطلانى ( ج 1 ص 291 ) وسراج الملوك للطرطوشي ( ص 79 ) وإحياء علوم الدين للغزالي ( ج 3 ص 138 ).
والمهم أن نعلم أن الكذب لا يجوز إلا في أضيق الحدود حيث تحقق المصلحة به لا بوسيلة أخرى من غير مضرة كبيرة للغير ، والأولى البعد عنه حتى لا يعتاده اللسان ، وفي المعاريض مندوحة عنه كما تقدم ، وأساس المعاريض حسن استخدام الألفاظ ذات المعاني المتعددة المتقابلة ، كالذي يقول : أنا أحب الفتنة ، ويريد المال ، وأكره الحق ، ويريد الموت ، وكمن يصف عسل النحل بلفظ تتقزر النفس منه ، كما جاء فى كتاب ( مفتاح دار السعادة ) ج 1 ص 141.تقول :هذا جنى للنحل تمدحه، وإن تشأ قلت : ذا قيء الزنابير مدحا وذما وما جاوزت وصفها ، والحق قد يعتريه سوء تعبير.