هذه مسألة خلافية بين الفقهاء ،والشأن في المسائل الخلافية ألا تكون مثار نزاع واختلاف ،بل كل يعذر أخاه فيما ذهب إليه ،وإن كان القبض أقرب للسنة من السدل ،لورود الأحاديث في القبض ،ولم يرد
في السدل شيء من السنة ،والسدل هو إرسال اليد،والقبض هو وضع اليد اليمنى على اليسرى.
يقول الشيخ عبد الله الصديق الغماري :
العالِم المُؤيِّدُ لاسْتحباب القبْض في الصلاة هو المُعتمَد الراجح وأدلَّتُه واضحة لا غُبارَ عليها، وممَّن نصَّ على استحاب القبْض من أئمة المالكية المَشهود لهم بالاجتهاد في المذهبِ القُضاةُ أبو الوليد الباجيُّ وأبو الوليد بن رُشد الجَدُّ وأبو بكر بن العربيِّ المعافريُّ وابنُ رشد الحَفيد والقاضي عِياضٌ والمازَريُّ وغيرهم، كما بيَّنه العلامة أبو عبد الله المسناويُّ في رسالته التي ألَّفها في سُنّيَّة القبْض في الصلاة على مذهب مالك، وشيخُنا العلامة المُحدِّث السيد محمد ابن جعفر الكَتَّانيّ الحسَنيّ في كتابه المسمَّى “سلوك السبيل الواضح إلى أن القبْض في الصلواتِ كلِّها على مذهب مالك مَشهورٌ وراجح” وهو كتاب نَفيسٌ قرأتُه في مكتبة مُؤلِّفه الخاصَّة بفارس، وكذلك للعلامة الشيخ محمد المكّيِّ بن عَزُّوز المالكيّ رسالة في سُنِّيَّةِ القبْض في الصلاة على مَذهب مالك اسمها “هيئة الناسِك” كما رجَّح العلامة محمد الطالِب بن الحاجِّ في حاشيته على “شرْح المُرشد المُعين” سُنِّيَّة القبْض أيضًا، وهي حاشية مُحرَّرة مُعتمَدة عندنا بالمَغرب.
أمَّا من حيث الحديث فالأحاديث في القبْض متواترةٌ؛ لأن الصحابة الذين رَوَوْها عن النبيِّ ـ ﷺ ـ تَجاوَزَ عددُهم عشرينَ شخصًا، ثم هي مُخرّجة في الكتب الستَّة وغيرها، كمُستدرك الحاكِم وصِحاح ابْنِ حبَّانٍ وابن خُرَيمة وابن الجارود والإسماعيليّ والجوزقيّ، عدَا كُتب السنن والمَسانيد، ولهذا أخذ الأئمة الثلاثة بالقبْض، بل مالك نفسه كان يَقْبض، وروَى عنه أصحابه المَدنيُّونَ القبْض،
ولا يُوجد في مذهب مالك قول بالسدْل إلا رواية ابن القاسم، وهي واردة في كَراهة القبْض للاعتماد.
ولم يَرِدْ في السدْل حديثٌ صحيح ولا حَسن ولا ضعيف، بل ولا موضوع أيضًا، فالحالِف على عدَم وُرود حديثٍ فيه بَارٌّ في يَمِينِه، بخلاف الحالف على القبْض فإنه حانِث في يَمينه تَلزمه الكفَّارة.
وكلام الشيخ عليش في فَتاوِيهِ مَرْدُودٌ جملةً وتَفصيلًا، وهو أحَدُ أخطائه المَعدودة في تلك الفتاوى، وما يَذكره عليش وغيره من أن السدْل عملُ أهل المدينة باطلٌ لا أصلَ له؛ فإن مالِكًا يَعني بعمل أهل المدينة فُقهاءَها من الصحابة والتابعين الذين منهم شُيوخه، مثل عمر وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وسعيد بن المسيّب ونافع والزهريِّ وغيرهم، وهؤلاء ثَبَتَ عنهم تَواتُر القبْض عملًا وقولًا، ولم يَرِدْ في شيء مِن الكتب نِسبةُ السدْل إلى واحد منهم ولو بسَند واحد ضعيف، فاستحباب القبض في الفرائض والنوافل هو مذهب مالك الذي كان يعمل به في نفسه ورَوَى حديثَه في المُوطَّأِ ولَقَّنَهُ لأصحابه المَدَنِيِّينَ.