يجوز إجراء المسابقات العلمية وإعطاء المتسابقين الجوائز على ذلك على رأي الحنفية خلافا للجمهور الذي أجاز التسابق ولكن على غير مال.
حكم المسابقات العلمية والثقافية
يقول الأستاذ الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة.
تَعْقِد الهيئات والمؤسسات والجهات المختلفة العلمية وغيرها مسابقات بين أفرادها، أو بين الكافة للتَّوَصُّل إلى الجواب الصحيح في مسألة أو مسائل معينة، وتُثِيب مَن يتوصل إلى الجواب الصحيح بالجوائز، ومنح هذه الجوائز للفائزين في هذه السباقات ليس من منطلق حصول النفع لمانح الجوائز ممَّن توصَّلوا إلى الجواب الصحيح، ولكنه بهدف إذكاء قيمة معيَّنة في أفراد المجتمع الذين تُجرَى بينهم هذه السباقات، ألا وهي تحصيل العلم النافع، والاستفادة منه، والتشجيع على كثرة الاطِّلاع، والتَّزَوُّد من الثقافات المتعددة، هذه القيمة التي يَهْدُف إليها مانح هذه الجوائز يتحقق بها نهضة المجتمع ورِفعته وتقدمه وازدهاره.
وقد حَضَّ الإسلام على طلب العلم، واعتبر جمهور فقهاء المسلمين طلبَ العلم فرضَ عَيْن على كل مسلم ذكرًا كان أو أنثى فيما يجب عليه من العلم به، ولا يَسَعُه أن يجهله كالعلم بكيفية أداء العبادات المختلفة، واعتبره هؤلاء فرض كفاية في غير ذلك، فإذا قام به مَن فيهم كفاية سقط الإثم عن باقيهم، وإن تقاعَس الجميع عن طلب هذا النوع من العلوم أثِموا جميعًا، ومن العلوم التي يجب طلب العلم فيها على الكفاية الطب والهندسة والحساب والتفسير والحديث والفروع الفقهية وغيرها مما يحتاج الناس إليه، وينصلح به حالهم في دينهم ودنياهم، زائدًا على ما يتعين عليهم العلم به.
الأدلة على طلب العلم
وقد جاءت نصوص كثيرة فيها حض من الشارع على طلب العلم النافع، من ذلك:
-قول الله تعالى: (وما كان المؤمنونَ ليَنْفِروا كَافَّةً فلولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدينِ وليُنْذِروا قومَهم إذا رَجَعُوا إليهم لعلهم يَحْذرون).
-وقوله سبحانه: (يَرْفَعِ اللهُ الذينَ آمنوا منكم والذينَ أوتوا العلمَ درجات..).
-وقوله جل شانه (هل يستوي الذينَ يَعْلمون والذينَ لا يَعْلمون).
-ورُوي عن أنس أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: “طلبُ العلم فريضة على كل مسلم”.
-وروي عن معاوية قال: “سمعت رسولَ الله ـ ﷺ ـ يقول: “مَن يُرِدْ اللهُ به خيرًا يفقهه في الدين”،
-ورُوي عن أبي هريرة أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: “مَن سَلَكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سَهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة.
والسباق في إصابة الحق في العلم أجراه رسول الله ـ ﷺ ـ بين أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ ذلك ما رواه عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: “إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها، وإنها مِثْل المسلم، فحدِّثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحيَيْتُ، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة. وفي رواية أخرى بلفظ: “أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم، تؤتي أكلَها كلَّ حين بإذن ربها، ولا تَحُتُّ ورقَها، ثم قال عبد الله: فوقع في نفسي النخلة، فكرهت أن أتكلم وثَمَّ أبو بكر وعمر، فلما لم يتكلما، قال النبي ﷺ: هي النخلة، فلما خرجت مع أبي قلت: يا أبتاه وقع في نفسي النخلة، قال: ما منعك أن تقولَها، لو كنتَ قُلْتَها كان أحب إليَّ من كذا وكذا، وقال: ما منعني إلا أني لم أركَ ولا أبا بكر تكلمتُما، فكَرِهْتُ.
ما حكم المسابقات التي عليها جوائز
السباق في إصابة الحق في العلم أجازه الحنفية، سواء كان على جائزة تُمنَح للمتسابق الذي أصاب الحق، أو كان يُجرَى مجانًا بدون جوائز، وقد علَّلوا جوازه على عِوَض بأن فيها حثًّا على تَعَلُّم العلم الذي به قِوام الدين، ومذهب غير الحنفية لا يمتنع فيه جواز إجراء السباق في إصابة الحق في العلم بدون جائزة تُعطَى لمَن أصاب الحق، فهو ما يقتضيه مذهب المالكية الذين يَرَوْن جواز السباق بغير عِوَض في كل شيء إذا اقتضى إجراء السباق غرض صحيح فيما يُجرَى فيه السباق، وهو ما يقتَضِيه مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم الذين يَرَوْنَ جواز السباق على غير عِوَض في كلِّ ما فيه منفعة يُرجَى تحصيلها بالسباق.
والسباق في إصابة الحق في العلم، أو التوصُّل إلى الجواب الصحيح، فيه غرض صحيح يقتضي جواز إجراء السباق، وهو في نفس الوقت منفعة يُرجى تحصيلُها بالسباق، فيجوز وَفقًا لمذهب الجمهور السباق في هذا المضمار بدون جائزة أو بدون عِوض يُعطى للفائز في السباق.
إلا أنى أرى ما يراه الحنفية من جواز إجراء السباق في هذا المجال على عِوض أو جائزة تُمنح للسابق فيه؛ لِما علَّلوا به مذهبهم ولترغيب الشارع في طلب العلم النافع وتحصيله والنبوغ فيه وإجراء السباق في إصابة الحق في العلم والتوصل إلى الجواب الصحيح فيه يساعد على ذلك، ومن ثَمَّ فإن ما تَرصُده الدولة أو مؤسساتها المختلفة من جوائز لمَن يتقدَّم في فرع من فروع العلم، أو يبتكر فيه، أو نحو ذلك أمر مشروع، ويدخل في هذا الحكم المتفوقون في دراساتهم والمُختَرِعون والمُبتَكِرون والسابقون إلى الجواب الصحيح في المسائل العلمية المختلفة فضلًا عمَّا يترتب عليه رصد الجوائز للفائزين في هذا السباق من إذكاء روح التنافس في مجال العلم والاختراع والابتكار، ونحو ذلك من مجالات تقوم عليها نهضة الأمم وتقدمها ورفعتها بين العالَمين.