مشروعية التبرع بالدم:
وجاءت في السنة مجموعة الأحاديث التي ترغب في إنقاذ الحياة وتفريج الكرب، وإغاثة اللهفان، روى أنس أن النبي –ﷺ- قال:” إن الله يحب إغاثة اللهفان ” (فيض القدير 2/ 287 رواه أبو يعلى والديلمي ، وفى الصحيح : ” من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ” (رواه الشيخان من حديث ابن عمر، كما في اللؤلؤ والمرجان، برقم 1667(.
كما نهى المسلم أيضًا مِن تعريض حياة أخيه المسلم للهلاك، فقال ﷺ: “المسلمُ أخو المسلمِ لا يَخذلُه ولا يَظلِمُه ولا يُسلمُه” (رواه الترمذيُّ).
وعلى سبيل القياس مع الفارق إذا كان إغاثة الحيوان وإطعامه، سبب من أسباب دخول الجنة، فإغاثة الإنسان أولى.
فضل التبرع بالدم:
كما أن هذا الأمر محمود لدى الناس، لأن هذا من باب إحياء النفس أو التسبب في ذلك، والله تعالى يقول ” وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ” المائدة 32
كما أنه يشيع المودة والمحبة والتراحم بين الناس، وتأليف النفوس، واعتراف الآخر بالجميل، مما يولد في المجتمع مجموعة من المعاني التي رغب فيها الإسلام وقصد إليها، وقدمنا في المشروعية أن النصوص دلت على أن من يفعل الخير يجده.
وبما أن التبرع بالدم يكون بدون مقابل للمال فهو نوع من الصدقة، ولا شك أن الصدقات من الأمور التي حض الله تعالى عليها وفضلها كبير عنده سبحانه وتعالى فروى الترمذي بسنده عن النبي -ﷺ- ” الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة
التبرع بالدم مقابل مال:
أولا: أن الإنسان مكرم، يقول الله تعالى “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ” الإسراء 70، ولا يجوز للإنسان أن يبيع أي جزء منه كما تباع السلع .
ثانيا: أنه لا يملك الدم، وما لا يملكه الإنسان لا يجوز له أن يتكسب منه.
ثالثا: أن التشريع الإسلامي حرم بيع الدم يقول الله تعالى:” إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ” النحل115، وروي عن النبي -ﷺ- أنه” نهى عن ثمن الدم ، وثمن الكلب”رواه البخاري، (والمقصود به الدم المراق، وما لم يحل منه كالكبد والطحال)، ومعلوم أن الله تعالى إذا حرم شيئا حرم ثمنه، لما رواه الدارقطني في سننه” إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه.
رابعا: ما يعطى غالبا بعد التبرع من بعض العصائر لا مانع منها شرعا، لأنها عرفا ليست مقابل الدم، وإنما منشط للجسم ليعوض ما فقده من الدم.
وبالرغم من هذا فنقرر أنه إذا انعدمت المروءة، وخارت الهمم، ولم يجد المريض ولا أهله من يتبرع بالدم، ووجدوا من يبيعه، فيمكنهم شراء الدم لدفع المرض، وإنقاذ حياة المريض، والإثم هنا على من يأخذ المال.
كما نقرر أن العلماء نصوا على أن التبرع بالدم لا تنتقل به الحرمة كالرضاع، والسبب في ذلك أن الرضاع منشئ للبدن، والدم يؤدي وظيفة فيه فقط، ومهما قيل من أسباب فأرى أن السبب الرئيس هو أن الله تعالى نص على أن التحريم يكون بالرضاع ، ولم يرد نص على أن انتقال الدم يحرم، ولا تحريم إلا بنص.
سن قوانين تلزم بالتبرع بالدم:
واستندت في هذا الرأي إلي ما يلي:
أولا: الأصْلُ أن اللهَ خلَق الإنسانَ حُرًّا في اختيار ما يُناسب ظُروف حياته الشخصية من مَأْكل وملْبسٍ وعقيدة وغير ذلك. وأوجبَ عليه المُحافظةَ على نفسِه وعلى غيره ومنَعه من التدخُّل في حياة الناس، كما منَع غيرَه من التدخُّل في حياته، إلا بالقدْر الذي يُنظم العلاقات الإنسانيَّة، فلا إكراهَ على فعْلٍ مِن الأفعال لقوله تعالى: (لا إكراهَ فِي الدِّينِ قد تَبيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ) (البقرة: 256). كما حذَّر الله سبحانه رسوله ـ ﷺ ـ مِن إكراهِ الناس وإجْبارِهم على الدُّخول في الإسلام فقال تعالى: (ولو شاءَ ربُّكَ لآمَنَ مَن في الأرضِ كلُّهمْ جَميعًا أفأنتَ تُكْرِهُ الناسَ حتَّى يَكُونوا مُؤمِنِينَ) (يونس: 99).
وقد كَفَلَ الإسلامُ الحرية الشخصية للإنسان ولم يَضعْ عليها قُيودًا ولا حُدودًا إلا في نِطاق “لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ” بمعنى أن الإنسان حُرٌّ في تَصرُّفاتِه شريطةَ ألا يَضرَّ بنَفسه ولا بالآخرِينَ.
ثانيًا: ومع أن الإسلام منَح الفرد الحريةَ الشخصيَّة فقد اعتبره لبِنَةً في بناء المجتمع يُقوِّي بُنْيانَه ويَقوَى به، لحديثِ النبيِّ ﷺ: “المسلمُ للمسلمِ كالبُنيانِ يَشدُّ بعضُه بعضًا”.
ثالثًا: أن التبرُّع بالدم يُعدُّ أمرًا حَيويًّا وضَروريًّا لا يُمكن الاستغناء عنه في حياة الناس، وهو نَسيجٌ مِن أهم أنسجة الجسم يَتجدَّد دائمًا ومُستمر التجدُّد، ممَّا يُعتبَرُ نِعمةً مِن نِعَمِ الله على عباده كالماء والهواء؛ لأن في تَجدُّده واستمراره استبقاءً للحياة.
رابعًا: في ظل الظروف الاجتماعية الراهنة فإن التبرُّع المُطلَق وترْكه لرَغبة الناس لا يُحقِّق إحياءَ النفْسِ ولا إنقاذَها عند تَعرُّضها للهلاك المُحقَّق أو الخطَر الداهم وحاجتها الفوريَّة الماسَّة إلى إيجاد وَسيلةِ إنقاذٍ لا تَتمُّ إلا بالأمر والإلْزام، فإنه يجب دِيانةً وشرعًا تقديمُ هذه الوسيلةَ جَبْرًا عند الامْتناعِ عن تَقديمِها طواعيةً حسبما يَقتضيه المقام، وفي مثل هذه الأحوال يَتحوَّلُ الواجبُ الكفائيُّ إلى واجبٍ عَيْنيٍّ على الجميع فيما بينهم، يتمُّ بطَريق الإلْزامِ إذا لم يَتحقَّقْ أداؤُه اختيارًا بطَريقِ الالْتزامِ الشرعيِّ دِيانةً. ويُلزم الجميع به إعمالًا للقاعدةِ الشرعيَّة: “الضرر الأشدُّ يُزالُ بالضرَرِ الأخفِّ”. “وما لا يَتمُّ الواجب إلا به فهو واجبٌ”.
وهنا يَتعيَّنُ على كل قادر إعطاءُ جزءٍ مِن دمَه لإخوانه على سبيلِ التعْيِين والإلْزام حِفاظًا على نفسِه ورُوحه؛ لأن نفسَه داخلةٌ في نفوس الجماعة، لذلك جاء قوله تعالى: (ولا تُلْقُوا بأَيْدِيكمْ إلَى التَّهْلُكَةِ) بصيغةِ الجمْع، وقوله تعالى: (ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكمْ إنّ اللهَ كانَ بكمْ رَحِيمًا) (النساء: 29).
ودارُ الإفتاء المصرية بناء على ما سبَق، واعتمادًا على نُصوص القرآن الكريم والسُّنة النبويَّة المُطهَّرة، وإعمالا للقواعد الشرعية والفقهية العامَّة والخاصَّة المُنَوَّهِ عنها سلَفًا، وتَطبيقًا للقياس على الأشباه والنظائر، ومُراعاةً لظروفِ الحالِ مِن فُتور الناس وتَباطُئِهم عن القيام بأداء الواجب الشرعيِّ عليهم طواعيةً واختيارًا، وحاجةِ المجتمع الملِحَّةِ والشديدة إلى وُجود كميات من الدم اللازمَة لإنْقاذ حياة المُضطرِّينَ إليه، وما وَرَدَ بالتقارير الطبية الصادرة عن أهل الاختصاص والخبرة ممَّن يُطمئنُّ إلى قولِهم، وما يُقرِّرُهُ المسئولون عن هذا العمل من وُجودِ نقْصٍ حادٍّ في كميات الدماء التي تَفِي بحاجة البلاد الضروريَّة مِن الدمِ الصالِح ـ ترى أنه لا مانعَ شرعًا مِن قيام ولِيِّ الأمرِ أو مَن يُنيبه باتِّخاذ ما يَراه مُلائمًا ومُناسِبًا من القوانين والإجراءات التي تُلزم الناسَ وتَحملهم على التبرُّع بالدم بما يُحقق المَصلحة العامَّة لأفراد المجتمع ويَدفع عنهم الهلاك والضرَرَ المُحقَّقَ، شريطةَ ألاّ يُؤدِّيَ ذلكَ إلى الإضرارِ بالمُتبرِّع لا في الحال ولا في المآلِ؛ لأنه “لا ضَرَر ولا ضِرَارَ” وأن يُتَّخذَ من الوسائل ما يَكفُلُ العدلَ والمساواة بين الجميع أخْذًا وعطاءً، طبقًا للضوابط والنُّظم التي تُوضع مِن أهل الاختصاص في ذلك لتحقيق العدالة بين الجميع، لأن الكُلَّ عند الله سواء، لا فرقَ بين غَنِيٍّ وفقير ولا بين قويٍّ وضعيف، لقولِه تعالى: (إنَّ أكرمَكمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ).أ.هـ
وهذه الفتوى وافية، وأقرر بعد ذلك أن الأصل هو التبرع عن طواعية ورضا، ويمكن للدولة سن اللوائح عند التقاعس، بما يحفظ للمريض حقه، وللمجتمع سلامته.
التبرع بالدم لغير المسلم:
وهو نوع من البر الوارد في قوله تعالى:” لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” الممتحنة 8.
وقد أجاز مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في مكّة المكرّمة في دورته الثامنة المنعقدة بين 19 – 28 يناير 1985 (أخذ عضو من جسم إنسان حي، وزرعه في جسم إنسان آخر مضطرّ إليه، لإنقاذ حياته أو لاستعادة وظيفة من وظائف أعضائه الأساسية). والتبرع بالدم أدنى من ذلك بكثير.
وبالتالي فالتبرع بالدم لغير المسلم –أيا كانت ديانته أو ملته- جائز لا حرج فيه، ونظر بعض الفقهاء إلى الحربي –غير الأسير- على أن المعاملة بالمثل هي الأصل فإن كانوا في بلادهم يحافظون على حياة المسلم، ويعتنون به، فيجب على المسلمين فعل ذلك، أما إن كان التبرع له سيكون سببا في بطشه بالمسلمين، ولا يقدم شيئا من أي معونة للمسلمين فلا يصح التبرع عند ذلك.
الامتناع عن التبرع بالدم:
جاء في فتاوى دار الإفتاء بالأزهر :
أما من يتقاعس أو يرفض بلا مبرر فقد حرم نفسه من ثواب الله، ولم ينصف المروءة حقها، ومع كل هذا لا يجبر على العطاء، لأن جواز النقل لعضو أو دم من إنسان حي مشروط بالإذن والرضا، وليس مما يجبر عليه قهرًا.
أما إذا كان الدم في مركز من مراكز تجميع الدم فإن الحكم يختلف، ويؤاخذ المركز على رفضه، وتقاعسه ممن يملك –قانونًا- مساءلته، وتشتد المساءلة حين يكون نقل الدم ضرورة لازمة، لإنقاذ جريح أو مريض، وقد يترتب على الرفض أو التقاعس والامتناع وفاة المصاب.أ.هـ