هناك أشياء لا يختارها الإنسان، ولكنه مسير فيها وفق إرادة الله تعالى، مثل بلد منشأه ، ولون بشرته، ونوع جنسه، وطوله وقصره إلى آخر هذه الأمور، وهذه الأمور اقتضت عدالة الله تعالى أن لا يكون فيها ثواب ولا عقاب؛ حتى لا يحاسب الإنسان على ما لم ترتكبه يداه.

أما إحراز الطاعات، واجتناب المعاصي، واقتراف الأخطاء، وإتيان الجنايات ، وإشباع الشهوات، فهذه أمور يأتيها الإنسان بمحض إرادته وقصده، ولا جبر لأحد عليه فيها، لكننا عند وقوعها نعلم أن الله أراد هذه الأشياء، بمعنى أن الله لا مكره له، لكن لا يلزم من إرادته لها أن يرضاها، فالله لا يحب الكفر ولا يرضاه. والله عز وجل يعلم الأمور قبل أن تقع على الوجه الذي ستقع عليه لسعة علمه سبحانه.

ويظن كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر أن الله قضى على الناس أعمالهم وقدرها عليهم، وألزمهم بفعلها، ولا حول لهم ولا إرادة، وذلك فهم خاطيء، وذلك لأن معنى القضاء والقدر أن الله قد سبق في علمه ما سيكون من أفعال العباد فكتبها بناء على هذا العلم الأزلي.

ولتقريب هذا الكلام نضرب هذا المثال:-

لو ذهب رجل ليزور صديقه فوجده قد جلس بين أولاده الثلاثة، فأعطى الرجل لكل ولد من أولاده دينار، ثم صرفهم، وأعطى كل ولد حريته في ديناره، ثم أقبل على صاحبه ، وقال له : أنا أعلم كيف سيصنع كل واحد بديناره، فقال له وما ذا سيصنعون، فقال :

أما الأول: فإنه سيدخره كله ، ولن ينفق مكنه فلسا واحدا، فهو محب للمال حريص عليه ، ولا تأسره شهوته، ولا تجره معدته.

أما الثاني: فلن يبقي من ديناره فلسا واحدا، وسينفق الدينار كله على الثياب فهو مأسور بحب الثياب مسحور بها لا يملك نفسه أمام النفيس منها.

أما الثالث، فهو متلاف للمال، لا يشتهي شيئا إلا اشتراه فسينفق ماله كله على شيء واحد وهو نوع من أنواع الحلوى اسمه كذا.

ثم جاء الأولاد بعد فترة قصيرة فسألهم أبوهم عما صنعوا بأموالهم فكانت المفاجأة أمام صديقه بأن كل ولد صنع ما حكى أبوه، وكأنه كان ينفذ خطة مدروسة، أو تمثيلية مرسومة.

فكيف عرف هذا الوالد ما سيصنعه أبناؤه، أليس من خلال معايشته معهم، وخبرته بهم، ومعرفته التامة بميولهم وأهوائهم وآمالهم وآلامهم، أيقال إن هذا الأب أجبر أولاده على ما صنعوا؟ بالطبع لا . فكذالك الله وله المثل الأعلى ، علم ما سيصنع كل عبد في دنياه قبل أن يخلق بمقتضى علمه المحيط، فكان قضاؤه وقدره سبق علم، وليس سبق جبر.

بقي أن هناك أمورا يصير الإنسان فيها، وهو غير مؤاخذ بها ، وذلك مثل البلد التي ولد فيها، وشكله ولونه ومثل ذلك.

وقد نقل الإمام النووي عن الخطابي أن ليس معنى القضاء والقدر إجبار اللّه سبحانه العبد وقهره على ما قدره وقضاه، بل معناه الإخبار عن تقدم علم اللّه سبحانه وتعالى بما يكون من اكتساب العبد، وصدور الأفعال عن تقدير منه.

يقول الشيخ عطية صقر-رحمه الله تعالى- من كبار علماء الأزهر:-

الله سبحانه خلق الإنسان وعلِم ما سيكون عليه من خير وشر وجعله قابلاً للطاعة والمعصية، وكلفه بأمور ينفذها وترك له الحرية في اختيار التنفيذ وعدم التنفيذ، ليكون محاسبًا أمام الله على ما فعله بحريته واختياره من طاعة أو معصية، والإنسان لا يعلم ما قدر له في علم الله إلا بعد وقوع المقدر، ولو أقدم على فعل محرم متعللاً بأنه مقدر عليه فهو مخطئ في هذا التعلُّل، لأنه ربما يحول بينه وبين فعل المحرم حائل يمنع، وهنا يعلم أنه لم يقدر عليه.

فالإنسان مخير في الأمور التكليفية التي يستطيع فعلها أو تركها بحريته واختياره، أما الأمور التي لا تقع تحت حريته واختياره، كالكوارث العامة من الزلازل البراكين والعواصف والسيول وغيرها فهو فيها ميسر.

ثم أقول: لماذا يكثر السؤال في هذا الموضوع، وبخاصةٍ مَنْ يقول: إن المعاصي مقدرة علينا فلماذا نُعاَقِبُ عليها ونحن مُرْغمون لا مفر لنا من القضاء والقدر؟ إن الله سبحانه علِم أن أَبَا لَهَبٍ لن يؤمن بسيدنا محمد، ومع ذلك أمر الله نبيه أن يطلب منه الإيمان، ليكون إيمانه وعدم إيمانه بحريته واختياره، فاختار أبو لهب الكفر، واستمر على ذلك حتى مات كافرًا، وهنا علم تمامًا أن الله سبحانه قضى في علمه أن أبا لهب سيختار الكفر ويموت عليه.

ثم أقول: لماذا يسأل الناس عن تقدير المعاصي لتبرير فعلها لأنها قضاء الله حتى لا يعاقب عليها، ولا يسأل عن تقدير الطاعات، ويُطالب بالثواب عليها، مع أن المعاصي مقدرة في علم الله؟ إن الإنسان هنا في الطاعات حريص على أن ينال الثواب على طاعته لأنها عمله. وفي المعاصي حريص على أن يُنَفَّرَ من العقاب على معصيته لأنها ليست عمله ـ في ادعائه ـ بل مقدرة عليه.

لا ينبغي أن يُغالط الإنسان نفسه، فهو مسئول عن كل شيء فعله بحريته واختياره من خير أو شر، قال تعالى: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (سور الطور : 21) وقال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَاكَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (سورة المدثر : 38) إن الأمر لو كان كما يريد هؤلاء من تقدير كل الأمور علينا وعدم الحساب عليها ما كانت هناك حاجة إلى إرسال الرسل ولا إلى البعث ولا إلى الحساب ولا إلى الجنة والنار. انتهى.

ويقول الشيخ العلامة ابن العثيمين- رحمه الله تعالى:-

على السائل أن يسأل نفسه هل أجبره أحد على أن يسأل هذا السؤال وهل هو يختار نوع السيارة التي يقتنيها ؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير .

ثم يسأل نفسه هل يصيبه الحادث باختياره ؟

هل يصيبه المرض باختياره ؟

هل يموت باختياره ؟

إلى أمثال ذلك من الأسئلة وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير .

والجواب: أن الأمور التي يفعلها الإنسان العاقل يفعلها باختياره بلا ريب واسمع إلى قول الله تعالى : ( فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبًا ) وإلى قوله : ) منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) وإلى قوله : ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً ) وإلى قوله : ( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) حيث خير الفادي فيما يفدي به.

ولكن العبد إذا أراد شيئاً وفعله علمنا أن الله -تعالى -قد أراده – لقوله – تعالى : ) لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) فلكمال ربوبيته لا يقع شيء في السموات والأرض إلا بمشيئته تعالى .

وأما الأمور التي تقع على العبد أو منه بغير اختياره كالمرض والموت والحوادث فهي بمحض القدر وليس للعبد اختيار فيها ولا إرادة .