الله تعالى خلق الإنسان، وأقدره على الأعمال, وهداه إلى التمييز بينها واختيار السبيل الذي يرضاه، وحساب الله للإنسان على كُفره أو على هدايته وإيمانه لأنه استجاب باختياره للإيمان، أو لأنه لم يستجب أيضًا باختياره فظل على كفره وضلاله .
يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:
حقيقة القول في المسألة : أن الله تعالى خلق الإنسان وأعطاه القوى البدنية والنفسية والحواس الظاهرة والباطنة , وأقدره على الأعمال النافعة والضارة , وهداه إلى التمييز بينها بالمشاعر والعقل والدين فهو يربي نفسه وعقله بكسبه ، وأعماله الاختيارية تابعة دائمًا لأفكاره العقلية وأخلاقه ووجداناته النفسية فهي كسبية تتبع كسبيًّا , فمهما فسد التعليم والتربية كانت الأعمال قبيحة ضارة , ومهما صلح التعليم والتربية كانت الأعمال صالحة نافعة حتمًا ، هذا ما نشاهده من سير الإنسان منفردًا ومجتمعًا فهو قطعي لا يقبل النزاع ، وقام الدليل العقلي على أن هذا النظام الكامل في الإنسان هو من مبدع الكائنات كلها , ولا تنافي بين الأمرين .
والبحث عن كيفية تعلق قدرة الله وإرادته في إقامة الإنسان أو غيره من الكائنات على ما هو عليه سفه من العقل وبدعة في الدين .
أما الأول:فلأن العقل لا يقدر على اكتناء سر الإبداع والتكوين, وأما الثاني:فلأن الشرع نهانا عن الخوض في القدر لأنه فتنة تثير الشكوك وتجر إلى الكفر وينتهي الأمر بصاحبها إلى أن يبرئ نفسه من ذنبه وتقصيره , ويرمي به ربه عز وجل بذلك [ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ]( الشورى : 30 ) .
وغدا يعتب القضاء ولا..عذر لعاص فيما يسوق القضاء
ويقول الدكتور محمد البهي-رحمه الله-:
الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق الإنسان على وضعٍ خاصٍّ؛ خلَقَه من بدَن ومن عقْل، خلقه من بدن تتكفَّل به الغرائز وهي مصادر الشهوة والهوى في الإنسان، وخلقه من عقل يتكفل به سمعه وبصره وإدراكه، وجعل بين الطرفينِ في تركيب الإنسان أو في طبيعته صِراعًا خفيًّا، فبينما الغرائز تدفع الإنسان في غير شُعور إذا بالعقل يُحاول وقْف اندفاع الغرائز ويُحاول توجيهها، والإنسان إذًا فيه مصدر الحركة وهو الغرائز، ومصدر القيادة والتوجيه وهو العقل أو الإدراك. وكلَّما كانت الغرائز قوية كانت مهمة العقل أصعب وكان الصراع بين الطرفينِ أشد، وإذا كانت للإنسان قيادة ذاتية مُمثَّلة في العقل، فله إرادة واختيار. والإرادة هي الظاهرة المُميِّزة للإنسان.
فالإنسان إذًا هو صاحب مَشيئة واختيار وإرادة، كما هو صاحب حركة ذاتية؛ يسعَى في الأرض، ويتفكَّر في خلْق السماوات والأرض، ويختار السبيل الذي يرضاه (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلامِ وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كأنَّمَا يَصَّعَّدُ في السماءِ كذلكَ يَجعلُ اللهُ الرِّجْسَ علَى الذينَ لا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 125) فللهِ إرادةٌ في إيمان المؤمن وفي ضلاله، وللإنسان كذلك اختيارٌ في إيمانه وفي ضلاله.
فأمَّا إرادة اللهِ فهي مُساعدة مَن يَهتدي بإرادته على إنجاز هدايته بأن يشرح صدره للإسلام (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلامِ) وأمَّا إرادة الإنسان فهي في إنجازه للهداية على ضوء انشراح صدره من الله لها، وأما إرادة الله في ضلال مَن يكفر فهي أن يجعل صدره ضيِّقًا حرَجًا (وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كأنَّمَا يَصَّعَّدُ في السماءِ) وإرادة الكافر لكُفْره تتمثل في أن يَضيق صدره بذكر الله ولا يرى إشعاع هدايته فيَظل في ظلام الضلال والحَيْرة.
وحساب الله للإنسان على كُفره أو على هدايته وإيمانه لأنه استجاب باختياره للإيمان، أو لأنه لم يستجب أيضًا باختياره فظل على كفره وضلاله، فهو له إرادة في كِلْتَا الحالتين بجانب إرادة الله جل شأنه.