لم يقل أحد من الفقهاء المعتبرين أن من معاني الهجرة أن يهجر المسلم المجتمع، وينزوي في الكهوف والجبال بل حث النبي ﷺ على مخالطة الناس ودعوتهم إلى الله، وجعل من يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرا ممن لم يخالط الناس .
وقد عرفنا النبي ﷺ بالمهاجر الحقيقي حيث قال ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ).
ولا تجب الهجرة على المسلم الآن إلا إذا فتن في دينه، ويأس أن يكون عضوا فعالا في هذا المجتمع، وخشي على نفسه الفتنة فعند إذن تجب الهجرة في حقه، والتحول من هذا المجتمع إلى مجتمع آخر يستطيع أن يقيم فيه العبادات.
جاء في كتاب بيان للناس من إصدارات الأزهر:
الهجرة تَعني التَّرْك والبُعد، والمَتروك قد يكون شيئًا ماديًّا وقد يكون مَعنويًّا، فالأول كتَرْك المكان إلى مكان آخر، والثاني كترْك العِصيان أو الكسل أو نحوهما، ومنه حديث “والمُهاجِر مَن هجَر ما نهَى الله عنه”. (رواه البخاري ومسلم) والهجرة قد تكون فرديةً وقد تكون جماعيةً وقد تكون مع ترْك الوطن والعمران إلى الخلاء، ويُطلَق عليها “عُزْلَة” أو اعتزال، وقد تكون هذه العُزلة مع عدم ترك الوطن كالاعتكاف في مسجد أو منزل أو خَلْوة، أي عدم الاختلاط بالناس والاندماج مع المجتمع.
وقد تحدث علماء الأخلاق بالذات عن حُكم العُزْلة والاختلاط بالناس، وعقد لها الغزالي كتابًا خاصًّا في مَوسوعته “إحياء علوم الدين” وقال: إن للناس اختلافًا كثيرًا في العُزلة والمُخالطة والتفضيل بينهما، مع أن كُلًّا منهما لا يَنفكُّ عن غَوائِلَ تُنفِّر منها وفوائد تدعو إليها.
وفصَّل أدلة المُختلفين في التفضيل، والذي يَهُمُّنا في هذا البيان هو ما يُنادي به بعض الشباب مِن هجرة المجتمع إلى الصحراء لتكوين مجتمع جديد مسلم، أو إلى مجتمع آخر يُمكن أن يُطلق عليه دار إسلام، وذلك لاعتقادهم أن المجتمعات الإسلامية الآن مجتمعات كافرة أو جاهلية، والهجرة منها واجبة كوُجوب الهجرة مِن مكة قبل الفتح الذي صارت به دار إسلام.
واستدلوا على ذلك بالآيات الواردة في الهجرة وذَمِّ المُقصرين فيها وجَعْلِها مِن تمام الإيمان، كقوله تعالى: (والذينَ آمَنوا ولمْ يُهاجروا ما لكمْ مِن وَلاَيتِهم مِن شيء حتى يُهاجروا). (الأنفال: 72) وقوله: (إنَّ الذينَ تَوَفَّاهُمُ الملائكةُ ظالِمِي أنفسِهِمْ قالوا فِيمَ كُنْتُمْ قالوا كُنَّا مُسْتَضعفِينَ في الأرضِ قالُوا ألمْ تَكُنْ أرضُ اللهِ واسعةً فتُهاجِروا فيها فأولئكَ مَأْوَاهُمْ جهنَّمُ وساءتْ مَصيرًا). (النساء: 97) وقوله: (والذينَ آمنوا مِن بعدُ وهاجروا وجاهدُوا معَكمْ فأُولئكَ مِنكمْ). (الأنفال: 75) كما استدلُّوا بأحاديثَ منها: “يُوشِكُ أن يكونَ خيرُ مالِ المسلمِ غَنَمًا يَتبَعُ بها شَعَفَ الجبال ومواقعَ القَطْر، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ”.
ونقول: إن آيات الهجرة كانت خاصة بالهجرة مِن مكة إلى المدينة حيث يوجد الرسول ـ ﷺ ـ والمؤمنون ليَشترك المُهاجرون معهم في الجهاد، ويَتعاونوا على خير المسلمين ويتخلَّصوا مِن فِتْنة الكفار لهم والضغط عليهم ليرتدُّوا، فكانت الهجرة واجبة، ولمَّا فُتحت مكة سَنةَ ثمانٍ من الهجرة صارت دار إسلامٍ ولم تُفرض الهجرة منها، وفي ذلك يقول النبي ﷺ: “لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جِهادٌ ونِيَّةٌ، وإذا استُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا”. (رواه البخاري ومسلم) وقد سُئلت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن الهجرة فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمن يَفِرُّ بدِينه إلى الله ورسوله مَخافةَ أن يُفتَنَ، فأما اليوم فقد أظهَرَ اللهُ الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء. (رواه البخاري).
والهجرة مِن دار الكفر إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة، لكن هل تكون واجبةً أو مَندوبة؟ قال العلماء: إن خاف المسلم على دِينه وخُلقه أو على ماله وجَب أن يُهاجر، وإنْ لم يَخَف لم تجب الهجرة وتكون سُنَّةً.
لكن قال المُحقِّقون: إذا وَجد المسلم أن بقاءه في دار الكُفر يُفيد المسلمين الموجودين في دار الإسلام، أو يُفيد المسلمين المَوجودين في دار الكفر بمِثل تعليمهم وقضاء مَصالحهم، أو يُفيد الإسلام نفسه بنَشْر مبادئه والرد على الشُّبَه المُوجَّهة إليه ـ كان وُجوده في هذا المجتمع أفضلَ مِن هَجْره، ويتطلب ذلك أن يكون قويَّ الإيمان والشخصية والنُّفوذ حتى يُمكنَه أن يقوم بهذه المهمة. وقد كان لبعض الدعاة والتُّجَّار في الزمن الأول أثَرٌ كبير في نشْر الإسلام في بلاد الكُفر.
ومثل ذلك يُقال في الهجرة من البلاد والمجتمعات التي فشَت فيها المُنكَرات، إن خاف المسلم على دِينه أو خُلقه ولم يستطع أن يُغيِّر هذه المُنكَرات وجَب عليه أن يُهاجر، أمَّا إذا كان قويَّ الإيمان والخُلق ويستطيع أن يُغير المنكر كان بقاؤه أفضل، بل قد يجب إذا لم يُوجد مَن يغير المنكر سِواه، قال الماوردي (نيل الأوطار ج 8 ص 29): وعلى هذا ينبغي أن يُفهم الحديث الذي يُخبر عن الزمان الذي تَكثُر فيه الفِتن ويدعو إلى البعد عنها والقناعة من العيش برَعْي الغنَم في الصحراء ليأمَن المسلم على دِينه، يقول الله سبحانه: (وقد نَزَّلَ عليكمْ في الكتابِ أنْ إذَا سَمعتُم آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا ويُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتَّى يَخُوضُوا في حديثٍ غَيرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ إنَّ اللهَ جامِعُ المُنافقينَ والكَافرينَ فِي جهنمَ جَمِيعًا). (النساء: 140)
والذين يدعون إلى الهجرة اليوم أين يذهبون؟ إن كانوا سيُهاجرون إلى بلد آخرَ، فليس هذا البلد بأحسنَ حالًا مِن البلد الذي هاجروا منه، فنظام الحُكم يكاد يكون مُتشابهًا، وسلوك الناس لا يختلف كثيرًا مِن بلدٍ إلى بلد، ومَن خالَط غيرَ أهله عَرَف، وكل إنسان في بلد يَحسب أن البلد الآخر أحسن، فإذا هاجر إليها صُدِم بالواقع الذي يُؤكد أنه لا يُوجد مجتمع نظيف مائة في المائة.
وإن كانوا سيُهاجرون إلى الصحراء فمَن الذي يُصلح الفاسد ويُغيِّر المُنكر في البلد الذي هاجروا منه؟
ثم إن الناظر إلى البلاد الإسلامية عامةً يرى أنه لا يُوجد ما يدعو إلى الهجرة منها لتكوين مجتمع إسلامي جديد، فهي أولًا ليست مُجتمعاتٍ كافرة، وليست دارَ كُفر، كما بيَّنَّا ذلك بوضوح، وهي ثانيًا ليست مجتمعات مُنحلَّة الخُلق مُعْوَجَّة السلوك إلى الحدِّ الذي يَخشى المسلم فيه على دِينه وخُلقه، والذي يَخشى ذلك هو ضعيف الإيمان وضعيف الثقة بشخصيته.
بعد هذا نقدِّم نماذج ممَّا قاله العلماء عن الهجرة:
جاء في تفسير القرطبي لقوله تعالى: (ومَن يُهاجرْ في سبيلِ اللهِ يَجِدْ في الأرضِ مُراغَمًا كثيرًا وسَعَةً). (النساء: 100) نقلًا عن ابن العربي أن العلماء قسَّموا الهجرة إلى قسمينِ، هجرة هُروب وهجرة طلَبٍ، وأن هجرة الهروب ستة أقسام:
1 ـ الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام.وكانت فرْضًا أيام النبي ـ ﷺ ـ وهي باقية مَفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي حيث كان، فإنْ بقِي في دار الحرب عَصَى، ويُختلف في حاله.
2 ـ الخروج من أرض البِدْعة.قال ابن القاسم: سمعتُ مالكًا يقول: لا يحلُّ لأحد أن يُقيم بأرضٍ يُسَبُّ فيها السلَف. قال ابن العربي: وهذا صحيح، فإن المنكَر إذا لم تَقْدِر أن تَغيرَه فزُلْ عنه. قال تعالى: (وإذا رأيتَ الذينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنهمْ حتى يَخُوضُوا في حديثٍ غيرِه وإمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشيطانُ فلا تقعدْ بعدَ الذِّكْرَى معَ القومِ الظالمينَ). (الأنعام: 68).
3 ـ الخروج مِن أرض غلَب عليها الحرام، فإنّ طلَبَ الحلال فرْضٌ على كل مسلم.
4 ـ الفِرار مِن الإصابة في البدَن.وذلك فضْلٌ مِن الله رخَّص فيه، فإذا خشِيَ على نفسه فقد أذِنَ الله في الخروج عنه والفِرار بنَفسه ليُخلِّصها مِن ذلك المَحْذور، وأول مَن فعَله إبراهيم ـ عليه السلام ـ فإنه لمَّا خاف من قومه قال: (إنِّي ذاهبٌ إلى ربِّي سَيَهْدِينِ). (الصافات: 99) وقال: (إنِّي مُهاجرٌ إلى ربِّي). (العنكبوت: 26) وقال الله مُخْبرًا عن موسى: (فخرَجَ مِنها خائِفًا يَتَرَقَّبُ). (القصص: 21).
5 ـ الخروج خَوفَ المرَض في البلاد الوَخِمة إلى الأرض النزِهة.وقد أذِن النبي ـ ﷺ ـ للرُّعاة حين استَوخَموا المدينة أن يَخرجوا إلى المَسْرَحِ فيكونوا فيه حتى يَصِحُّوا، وقد استُثنيَ مِن ذلك الخروجُ مِن الطاعون فمنَع الله منه بالحديث الصحيح عن نبيِّه، غير أن العلماء قالوا: إنه مَكروه.
6 ـ الفِرار خوْفَ الأذِيَّة في المال. فإن حُرمة مال المسلم كحُرمة دمِه، والأهلُ مِثلُه وأَوْكَدُ.
ثم تحدث عن هجرة الطلَب وقسَّمها قسمينِ، طلَبَ دينٍ وطلَبَ دُنيا، والأول يتعدَّد بتعدُّد أنواعه إلى تِسعة أقسام:
1 ـ سفَر العِبْرَة.وهو كثير، قال تعالى: (أوَ لمْ يَسِيرُوا في الأرض فيَنْظُروا كيفَ كانَ عاقبةُ الذينَ مِن قَبْلِهِمْ). (الروم: 9).
2 ـ سفر الحَجِّ. وسفَر العِبْرة وإنْ كان نَدْبًا فسَفر الحج فرْضٌ.
3 ـ سفر الجهاد. وله أحكامه.
4 ـ سفر المَعاش. فقد يتعذَّر على الرجل مَعاشه مع الإقامة فيَخرج في طلبه لا يَزيد عليه، بصَيد أو احتطاب أو غيرهما، فهو فرْض عليه.
5 ـ سفر التجارة والكسْب الزائد على القُوت والحاجة.وذلك جائز بفَضل الله كما قال سبحانه: (ليسَ عليكمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ). (البقرة: 198) وهي نعمة مَنَّ اللهُ بها في سفر الحج، فكيف إذا انْفَرَدَتْ؟
6 ـ سفرٌ في طلَب العلْم. وهو مَشهور.
7 ـ سفرٌ لقَصْد البقاع الخيِّرة.ومنه حديث: “لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثة مساجد”. (رواه البخاري ومسلم).
8 ـ سفرٌ لقصْد الثُّغُور والمُرابطة فيها مِن أجل الجهاد.
9 ـ سفر لزيارة الإخْوان في الله.كما في الحديث الذي يدلُّ على أن مَلَكًا أرصَدَه الله في طريق رجل ليَزور أخاه في الله، وبَشَّرَهُ بالجنة. (رواه مسلم) اهـ ملخَّصًا.
فهذه أنواع وألوان مِن الهجرة المشروعة، والنصوص فيها كثيرة، وما دام القصد منها شريفًا فلا مانع أبدًا. وهجرة الطلَب يَدفع إليها عاملٌ إيجابيٌّ جذَّاب يعتمد على الرغبة، أما هجرة الهروب فالدافع إليها سلبيٌّ يعتمد على الرهْبة، وهو يُسيءُ إلى المكان المَهروب منه إساءةً أدبية حيث لم يَستطع أن يُوفِّر أسباب الإقامة الكريمة لمُواطنيه فهَجروه إلى ما هو أحسنُ منه. ولئِن كان المُهاجر قد رحل بجسده عن قوم جفَوْهُ وآذَوه فإنهم قد رحلوا عن شرَف السمعة إلى وَصْمة الأُحدوثة، على حدِّ قول الشاعر:
إذا تَرَحَّلْتَ عن قومٍ وقد قَدَرُوا ألَّا تُفَارِقَهُمْ فالرَّاحِلُونَ هُمُو.