هذه مسألة قد اختلف فيها الفقهاء إلى رأيين: الأول: أنه لا عبرة بتغير القيمة ولا أثر له على المهور، فيجب مثل المهر المسمى وإن نقصت قيمته .
والثاني: أن تغير القيمة له أثره على المهور وغيرها من الحقوق الواجبة في الذمة إذا كانت نقودا غير الذهب والفضة ، فيجب للزوجة قيمة المؤخر من المهر، وهذا هو الرأي الراجح، وقد رجحه أكثر العلماء المعاصرين .
يقول الشيخ فيصل مولوي، نائب رئيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث :
لقد بحث علماء المذاهب في هذا الموضوع بحثاً مستفيضاً. ولم تكن بحوثهم تتعلّق بالنقود الذهبية والفضّية التي كانت سائدة في عصورهم، لأنّ التغيّر الذي قد يطرأ على قيمتها ليس له تأثير يُذكر، وإنّما تتعلّق بالفلوس التي كانت معروفة في عصورهم أيضاً ولا تُستعمل إلاّ في المدفوعات البسيطة. ولم يتناول أحد منهم مسألة التغيّر في القيمة التي تلحق بالأوراق النقدية المعاصرة، لعدم وجودها في زمانهم. ونستعرض الآن مختلف الآراء على الوجه التالي :
الرأي الأول: وهو عدم الاعتداد بتغيّر القيمة وإلزام المدين بدفع المثل ، وهو المشهور في مذهب المالكية والشافعية والحنابلة .
وهو رأي أبي حنيفة وإن لم يكن معمولاً به في مذهب الحنفية .
الرأي الثاني: وهو وجوب أداء القيمة في حالة الرخص أو الغلاء .
وهذا هو المعمول به في مذهب الحنفية ، وهو قول أبي يوسف: ” فإن كان ما في الذمّة قرضاً، فتجب القيمة يوم القبض (أي يوم قبض القرض). وإن كان بيعاً، فالقيمة يوم العقد “.
وهو قول كثير من علماء الحنابلة حتّى ذهب متأخّروهم إلى ترجيحه وخاصّة شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو رأي في المذهب المالكي ذكره الرهوني وقيّده بما إذا كانت زيادة القيمة أو نقصانها ليست كبيرة جداً .
وحين ندقّق في قول ابن عابدين الحنفي في هذه المسألة نجد أنّه يحصر العمل فيه بالنسبة للفلوس أو الدراهم المغشوشة إذا رخصت أو غلت، فيعود إلى تقدير قيمتها بالدراهم (وهي نقود فضّية) أو بالدنانير (وهي النقود الذهبية)، ولا يتناول أبداً مسألة الرخص والغلاء بالنسبة لهذه النقود الذهبية والفضّية. يقول ابن عابدين: “إيّاك أن تفهم أنّ خلاف أبي يوسف جارٍ حتّى في الذهب والفضّة، فإنّه لا يلزم لمن وجب له نوع منه سواه بالإجماع. فإنّ ذلك في الفهم خطأ صريح ناشئ عن عدم التفرقة بين الفلوس (أي العملات المستحدثة، غير الذهب والفضة) والنقود ( أي الذهب والفضة )”
وأما آراء العلماء المعاصرين في أثر تغيّر قيمة النقود، فلقد بحث بعض العلماء المعاصرين في هذه المسألة على ضوء الواقع الجديد، وهو غياب النقود الذهبية والفضّية بشكل كامل عن ساحة التبادل، وحلول النقود الورقية مكانها، وهي نقود ليست لها أيّة قيمة ذاتية، بل قيمتها اصطلاحية فقط، وهي بذلك أقرب إلى الفلوس التي لها قيمة ذاتية ولكنّها قليلة. وقد اطلعت على أقوال كثير من العلماء المعاصرين في هذه المسألة فوجدت أكثرهم يتبنّى رأي المذهب الحنفي، ومن هؤلاء :
1- الدكتور شوقي أحمد دنيا، أستاذ الاقتصاد. فقد كتب بحثاً مفصّلاً في هذه المسألة خَلُص فيه إلى القول: “نرى أنّ الاقتراب إلى روح الشريعة ومقاصدها وقواعدها من العدل وعدم الظلم هو الرأي الثاني. فإذا تغيّر سعر النقود أو قيمتها فقد زال التماثل، ويكون المعوّل عليه عندئذٍ هو قيمة الدَّيْن يوم ثبوته. خاصّة إذا ما وضعنا في حسابنا أنّ مبنى عقود المعاوضة على التساوي في المالية بين العوضين. فكلٌ من الطرفين يعتقد أنّ ما حصل عليه مساوٍ لما دفعه، إن لم يكن أكبر . وجوهر التساوي في الأموال هو ماليّتها الاقتصادية ” .
2- دكتور عجيل جاسم النشمي، فقد نشر بحثاً مفصّلاً في مجلّة الشريعة والدراسات الإسلامية الصادرة عن جامعة الكويت بعنوان: (تغيّر قيمة العملة في الفقه الإسلامي)، قال الدكتور النشمي: “إن قول أبي يوسف بإيجاب القيمة في الرّخص والغلاء قول يسنده العديد من قواعد الشرع. ولعلّ أبا يوسف اعتبر الرّخص والغلاء عيباً لحق الفلوس، سواء في القرض أو البيع، فترتّب عليه ظلم للدافع في حالة الرّخص. فينبغي أن يجبر بالقيمة، ولا يقتضي إبطال العقد، كما لم يبطل في الكساد والانقطاع. وقد لاحظ أبو يوسف ههنا أنّ الفلوس أثمان باصطلاح الناس، فإذا تغيّر اصطلاحهم، فينبغي مراعاة هذا التغيّر بحيث لا يترتّب على طرف ضرر، وإلاّ لم يعد للاصطلاح فائدة أو معنى “.
3- معالي الشيخ عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيّه، والذي يُعتبر من فقهاء المالكية في هذا العصر، وقد تحدّث عن تغيّر قيمة العملة بالزيادة أو النقصان بعد تعلّقها في ذمّة المدين، وتساءل عمّا يجب عليه أن يؤدّيه للدائن في هذه الحالة، وأورد الرأيين السابقين للمذاهب :
الأول:وجوب أداء المثل من نفس العملة التي وقع التعاقد عليها وإن نقصت أو زادت .
والثاني: أداء قيمة العملة التي تغيّرت بالنقصان أو الزيادة. ثم أضاف الشيخ ابن بيّه رأياً ثالثاً استنتجه من رأي الرهوني، والذي ذكره الزرقاني في شرحه على مختصر خليل (وهم من علماء المالكية ) . وخلاصة هذا الرأي أنّ مذهب المالكية في الأصل يعتبر أنّ اللازم على المدين، في حالة بطلان الفلوس أو تغيّرها بالزيادة والنقصان هو المثل. وقد قال الرهوني تعقيباً على ذلك: “وينبغي أن يقيّد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جداً حتّى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه “.
وقد عقّب الشيخ ابن بيّه على ذلك بقوله: “إنّ تفصيل الرهوني جيّد، إلاّ أنّه لم يحدّد النسبة التي إذا وصل إليها الرخص رجع بها الدائن على المدين، سواء كان دين قرض يقصد به المعروف والإحسان، أو دين بيع يتوخّى منه الربح. ونحن نقترح للبحث نسبة الثلث قياساً له على الجائحة في الثمار (الآفة التي تصيبها)، لأنّ الجائحة أمر خارج عن إرادة المتعاقدين، وليست من فعل أحد حتّى يرجع عليه البائع إن شاء. وقد قال مالك: إنّ الجائحة تكون في ضمان البائع إذا وصلت إلى الثلث فما فوق، وهي رواية عن أحمد. كما أنّ الثلث يعتبر في الغبن الذي يقع على أحد المتعاقدين، فيكتفى بالثلث لتحقّق الغبن .
4- الدكتور عدنان خالد التركماني، أستاذ الفقه الذي ذكر في كتابه: (السياسة النقدية والمصرفية في الإسلام) قواعد التعامل في حالة تغيّر النقود، وأشار إلى الرأيين الفقهيين المذكورين آنفاً وهما: اعتماد المثل أو القيمة. وعقّب على الرأي الثاني بما يفيد تأييده .
5- الدكتور رفيق المصري، الأستاذ المساعد بمركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي يقول فقد عقد بحثاً مستفيضاً في كتابه: (الإسلام والنقود) حول تدهور النقود والربط القياسي للقروض غير الربوية. ويُفهم من كلامه أنّه يؤيّد اعتبار القيمة عند تغيّر قيمة النقود .(انتهى) .
والخلاصة :أن الرأي الراجح هو وجوب قيمة المهر القديم الذي تغيرت قيمته ، فتجب قيمته بمعيار الذهب أو الفضة ، فإن كان المهر القديم يساوي ألف درهم فضة ، أو مائة دينار أو جنيه من الذهب، وأصبح الآن يساوي مائة درهم من الفضة، أو عشرة دنانير أو جنيهات من الذهب ، وجب على الزوج لزوجته ما يساوي ألف درهم من الفضة، أو ما يساوي مائة دينار أو مائة جنيه من الذهب، وإن كان أضعاف المهر المسمي في عقد النكاح القديم .