لقد كان المسجد، وكانت صلاة الجماعة فيه هي المدرسة اليومية العملية، التي يتلقى فيها المسلمون – على يد الرسول المعلم – دروس التربية والتدريب العملي، لتحويل المبادئ والقيم إلى عمل ملموس، وواقع معيش.
ففي رحاب المسجد يتعلمون – بالممارسة – ضرورة الجماعة، وأهمية القيادة، وحسن الطاعة، ووجوب رعاية النظام، واحترام قواعد السلوك الجماعي.
ولابد في صلاة الجماعة من إمام يقودها، يختارونه وفق مواصفات وأولويات حددها لهم الرسول – -. قال: « يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنًا، ولا يؤمن الرجل في أهله، ولا في سلطانه » (رَواهُ الجماعة عن أبي مسعود الأنصاري، صحيح الجامع الصغير (8011).
وعلى الإمام أن يعمل على تسوية الصفوف وانتظامها بقوله وفعله، حتى تستقيم وتتواصل وتتراص، فلا عوج ولا فرجة ولا خلل ؛ فإن عوج الظاهر دليل على عوج الباطن، واختلاف الأبدان يؤذن باختلاف القلوب.

وكان النبي – -هو الأسوة والمثل والمعلم في ذلك كله، وجاءت أحاديثه الشريفة تضع القواعد، وتوضح المعالم، لصورة الجماعة التي يحبها الله سبحانه وتعالى ورسوله .
فعن ابن عمر قال: قال رسول الله – -: « أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسووا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا: وصله الله، ومن قطعه قطعه الله » (رَواهُ أبو داود بإسناد صحيح، كما في المشكاة (1102).
وعن النعمان بن بشير، قال: كان رسول الله – -يسوي صفوفنا كأنما يسوي بها القداح، حتى رأي أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يومًا، فقام حتى كاد أن يكبر، فرأي رجلاً باديًا صدره من الصف، فقال: « عباد الله ! لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم » (رَواهُ مسلم في الصلاة (436).
وعن أنس، قال: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله – -بوجهه، فقال: « أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري » (رَواهُ البُخاريُّ ومسلم في كتاب الصلاة ).
وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: كان رسول الله – -يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: « استووا، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم » (رَواهُ مسلم في الصلاة (423، 122).
وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله – -: « ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم – ثلاثا – وإياكم وهيشات الأسواق » (رَواهُ مسلم في الصلاة (422، 123).
وهيشات الأسواق: ارتفاع الأصوات والصخب واللغط فيها، والمنازعة والخصومات فيها.
وعن أبي سعيد الخدري قال: رأي رسول الله – -في أصحابه تأخرًا، فقال لهم: « تقدموا فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله » (رَواهُ مسلم في الصلاة (438: 130).
وعن جابر بن سمرة، قال: خرج علينا رسول الله – -فرآنا حلقًا، فقال: « ما لي أراكم عزين؟! » ثم خرج علينا، فقال: « ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ » فقلنا: يا رسول الله ! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: « يتمون الصفوف الأولى، ويتراصون في الصف » (رَواهُ مسلم في الصلاة (430، 119).

وإذا دخل الإمام في الصلاة، فيجب على المأمومين خلفه أن يتابعوه ويأتموا به، ولا يجوز لهم أن يسبقوه بركوع أو سجود أو قيام، أو أي حركة من حركات الصلاة ؛ فهذا ينافي صورة الجماعة المؤمنة الملتزمة المتراصة خلف قيادتها.
وفي الحديث: « إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا » (متفق عليه، عن أنس. اللؤلؤ والمرجان (232).

وهذا ما لم يخطئ الإمام خطأ ظاهرًا، فهنا على المأمومين أن يصححوا له خطأه، وينبهوه على غلطه بدون تشويش، وهذا حق الكبير والصغير، حتى المرأة في الصفوف الخلفية البعيدة تستطيع أن تصفق بيديها لتنبه الإمام.
وفي هذا جاءت الأحاديث النبوية معلمة وموجهة:
عن أنس قال: صلى بنا رسول الله – -ذات يوم، فلما قضى صلاته، أقبل علينا بوجهه، فقال: « أيها الناس ! إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالانصراف، فإني أراكم أمامي، ومن خلفي » (رَواهُ مسلم (426: 112).
وعن أبي هُريرةَ، قال: قال رسول الله – -: « لا تبادروا الإمام: إذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد » (رَواهُ مسلم (417: 8).