معلوم أن لحم الخنزير يحرُم أكل كما قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ) (سورة المائدة: 3) وتحريم أكل اللّحم يشَمل تحريم كلّ أجزائه من الشّحم و الكبِد والطُّحال وغيرها، لقوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَىّ مُحرَّمًا عَلى طَاعِمٍ يَطْعَمُه إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّه رِجْسٌ) (سورة الأنعام : 145)؛ لأن الضّمير في قوله (فإنّه رِجس) عائِد على لفظ الخِنزير لا على لفظ “لحم”؛ لأن تحريم اللحم معلوم بالنّصِّ عليه، فلو عاد الضمير عليه لزِم خُلوُّ الكلام من فائدة التأسيس، فوجب عودُه إلى كلمة “خنزير” ليفيدَ الكلام تحريم بقيّة أجزائه.
ومع تحريم أكل أي جزء منه فهو نَجِسٌ؛ لأن الله وصفه بأنه رِجس والرّجس هو النجس، وجمهور الفقهاء على نَجاسته حيًّا ومَيِّتًا بدليل هذه الآية، وإن كان في الدليل مناقشة، فقد يراد بالنجاسة النجاسة الحُكميّة وهي حُرمة الأكل، وليس النجاسة العَينيّة، كنجاسة المشركين في قوله تعالى: (إنّما المُشرِكُونَ نَجَسٌ) فالمراد نجاسة الاعتقاد وليس النجاسة العينية، حيث لم يقل أحد بأن المُشرك ينجُس. على مثل ما جاء في قوله: (إنّما الخَمْرُ والمَيْسِر والأنْصابُ والأزْلامُ رِجس مِنْ عَمَل الشَّيْطان) فنَجاسة الأنصابِ والأزْلام حكميّة وهي الحرمة، وليست نجاسة عينية.
ولما كانت الآية لا تدلّ دَلالة قطعيّة على نَجاسة الخِنزير نَجاسة عَيْنيّة استدلّ بعض العلماء على ذلك بالقِياس على نجاسة الكَلْب؛ لأنه أسوأ حالًا منه حيث لا يجوز الانتفاع به، ولكن هذا الدليل غير مسلّم؛ لأن الحشرات لا يُنتفع بها ومع ذلك هي طاهرة.
ومن هنا قال النووي: ليس لنا ـ أي الشافعية ـ دليل على نجاسة الخنزير، بل مقتضى المذهب طهارته كالأسد والذئب والفأر، وقال ابن المنذر: الإجماع على نجاسة الخنزير، لكن دعوى الإجماع فيها نظر؛ لأن مالكًا يُخالف فيه ويقول بطهارته.
نخلُص من هذا إلى أن الخنزير يحرُم أكله، أما طهارته فالجمهور على أنه نجس، والبعض قال: إنه طاهر كالحِمار والذِّئب يحرُم أكلهما ومع ذلك طاهِران.
وكل حيوان لم يُذبح ذبحًا شرعِيًّا أو كان ممّا يحرُم أكله حتى لو كان طاهرًا حال حياته كالحمار، فإنه يعتبر “مَيتة” ولحم الميتة مع حُرمة أكله نجس، والنجاسة تشمَل الجلد والشَّعر وكل ما يتَّصل به، غيرَ أن جلد الميتة يطهُر بالدّباغ عند الجمهور، إلا جلد الكَلْب والخنزير فلا يُطهِّره الدّباغ، ومثله الفِراء والشّعر، ومذهب داود الظاهري وأبي يوسف أن الدّباغ يطهِّر كل جلود الميتة حتى الكلب والخنزير؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك (1) لم يُفرَّق فيها بين الكلب والخنزير وما سواهما، ذكره النووي في شرح صحيح مسلم، ونقله الشوكاني في نيل الأوطار “ج 1 ص 75” وعليه فلا يجوز استعمال جلدِ الخنزير وشعره في ملابس أو أحذية أو غيرهما على رأي جمهور العلماء.
هذا هو حكم شعر الخنزير إذا أُخذ بعد موتِه، أما إذا أخذ حال حياته فإن حكمه كحكم مَيتتِه، ومَيْتتُه نَجِسة، فشعره بالتالي نجس، وذلك لحديث رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين “ما قُطِعَ من حَيٍّ فهو كمَيتِته” (الإقناع للخطيب ج 1 ص 24) واستثنى العلماء من هذا الحديث شعر وصوف ووَبَرٍ مأكول اللّحم فهي طاهرة، وعلى هذا لا يجوز استعمال شعر الخنزير إذا قُصَّ منه وهو حَيّ في عمل الفَراجين ” الفرش” حتى لو غُلِيَ هذا الشعر وعُقِّم سواء أخذ حال الحياة أو بعد الموت؛ لأن هذه الإجراءات الصِّحِّيّة لا تطهِّره، بل هي للتأكيد من خلوه من الأمراض المَعِدِيّة، والنّجاسة باقية؛ لأنها نجاسة عين لا تطهُر بهذه الوسائل مطلقًا، بخِلاف الشيء الطاهر الذي لاقته النجاسة فإنّه يقال عنه إنه مُتنجِّس، ويطهُر بالغُسل بالماء على ما هو مفصل في كتب الفقه.
هذا، وقد يقرأ في بعض الكتب أن شعر الخنزير يجوز الانتفاع به في خِرازة النعال، لما رُوِيَ أن رجلًا سأل النبي ـ ﷺ ـ عن ذلك فقال لا بأس، كما رواه ابن خويز منداد، فكانت الخِرازة به موجودة في عهد النبي وبعده، ولم يُعلَم أنه أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده.
لكن جواز خِرازة النعال بشعر لا ينفي نجاسته، ولذلك لا يجوز المسح على النعل المَخروز به ولا الصلاة فيه، وإن أجاز بعضهم ذلك فهو عند الضرورة ” حياة الحيوان الكبرى للدميري ـ خنزير بري”.
الهوامش
(1) من هذه الأحاديث ما رواه مسلم “أيُّما إهاب دُبِغَ فَقُدْ طَهُرَ” وما رواه الدارقطني “طهور كلِّ أديم دِباغِه.