من الدعائم الهامة التي تقوم عليها الإجابة مراعاة حال السائل أو المستفتي، وفي هذه الحالة يجب الاكتفاء بالفرائض والأركان أولا ثم إذا تمكن المسلم الذي دخل الإسلام حديثا من هذه الأركان عرفناه بالسنن والنوافل حتى لانشق عليه .
وإذا أردنا التفصيل في هذه المسألة بضرب أمثلة على هذا الموضوع نقول:
1- أول ما يحتاجه المسلم الذي يريد الدخول للإسلام الاغتسال والنطق بالشهادتين، لو حدثناه عن سنن الغسل وكيفيته لشق عليه ذلك ، ولكننا نكتفي بأن نقول له عليك أن تعمم الجسد بالماء مع نية الغسل، ومن المؤكد أن هذا الرجل أو المرأة كان يغتسل بشكل طبيعي قبل الدخول للإسلام فلم نزد إلا النية ومحلها القلب ولا يشترط التلفظ بها، وأن يكون الماء طاهرا غير مختلط بشيء يخرجه عن طهوريته، وهذا يكفي في المرحلة الأولى حتى يعتاد على هذا الأمر.
وكذلك الوضوء يمكننا أن نخبره بأن عليه غسل اليدين والوجه ومسح الرأس وغسل الرجلين، فإذا أحسن هذا كله أخبرناه بالسنن والنوافل ولو صلى بغير هذه السنن فترة من عمره فلا بأس ما دام وضوؤه صحيحا .
2- والأمر الثاني الذي يحتاج إليه المسلم هو الصلاة ، وهنا نكتفي أيضا بالأركان فنكتفي بتكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة والركوع والسجود دون الدخول في التفاصيل، فإذا أتقن هذه الأركان كان الأمر سهلا بعد ذلك .
3- وبالنسبة للصيام ( صيام شهر رمضان ) فهو كما عرفه الفقهاء هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من أذان الفجر حتى أذان المغرب مع النية أيضا .
4- والزكاة إخراج 2.5 % من ماله كل عام والتفاصيل الأخرى يسأل عنها عند وقوعها لأنها لا تتكرر يوميا كالصلاة والطهارة .
5- وأخيرا الحج ويمكننا إيجاز أركانه وواجباته في الإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة ورمي الجمرات والحلق .
وبهذه الطريقة نيسر على المسلمين الجدد أو حتى على العوام من المسلمين أمر دينهم ولقد كان منهج القرآن في غرس القيم والإلزام بالعبادات والانتهاء عن المحرمات هو التدرج .
فليس من السهل على النفس البشرية أن تتخلى عما ورثته من عادات وتقاليد،وقد كان عرب الجاهلية قد ورثوا كثيراً من العادات التي لا تتفق مع شريعة الإسلام، كوأد البنات، وشرب الخمر، وحرمان المرأة من الميراث، وغير ذلك من العادات التي جاء الإسلام وأبطلها، فاقتضت حكمته تعالى أن يُنـزل أحكامه الشرعية شيئاً فشيئاً، تهيئة للنفوس، وتدرجاً بها لترك ما علق بها من تلك العادات. يشير إلى هذا المعنى أن تحريم الخمر لم ينزل دفعة واحدة، بل كان على ثلاث مراحل، كما دلت على ذلك نصوص القرآن الكريم. وفي قوله تعالى: (ونزلناه تنـزيلاً) إشارة إلى أن نزوله كان شيئاً فشيئاً حسب مصالح العباد، وما تتطلبه تربيتهم الروحية والإنسانية، ليستقيم أمرهم، وليسعدوا به في الدارين
يقول الشيخ القرضاوي – رحمه الله ـ في حديثة عن موضوع التدرج في التشريع :
من التيسير المطلوب في الشريعة: مراعاة سُنَّة التَّدَرُّج، جَرْيًا على سُنَّة الله ـ تعالى ـ في عالَم الخَلْق، وعالَم الأمر، واتباعًا لمنهج التشريع الإسلامي في فرض الفرائض من الصلاة والصيام وغيرهما، وفي تحريم المُحرَّمات كذلك.
ولعل أوضح مثل معروف في ذلك هو تحريم الخمر على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي، لا يجهلها دارس.
ولعل رعاية الإسلام للتَّدَرُّج هي التي جَعَلَتْه يُبقِي على “نظام الرِّقِّ” الذي كان نظامًا سائدًا في العالَم كله عند ظهور الإسلام، وكان إلغاؤه يُؤدِّي إلى زلزلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة في تضييق روافده بل ردمها كلها ما وُجِدَ إلى ذلك سبيل، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حَدٍّ، فيكون ذلك بمثابة إلغاء للرِّقِّ بطريق التدَرُّج.
وهذه السُّنَّة الإلهية في رعاية التدَرُّج ينبغي أن تُتَّبَع في سياسة الناس عندما يُراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة اليوم، بعد عصر الغزو الثقافي والتشريعي والاجتماعي للحياة الإسلامية.
فإذا أردْنا أن نُقيمَ “مجتمعًا إسلاميًّا حقيقيًّا” فلا نتوهم أن ذلك يتحقق بجَرَّة قلم، أو بقرار يصدر من ملك أو رئيس، أو مجلس قيادة أو برلمان.
إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، أعني بالإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية، وإيجاد البدائل الشرعية للأوضاع المُحرَّمة التي قامتْ عليها مؤسسات عِدَّة لأزمنة طويلة.
ولا نعني بالتدرج هنا مجرد التسويف وتأجيل التنفيذ، واتخاذ كلمة التدرج “تكأة” لتمويت فكرة المطالبة الشعبية المُلِحَّة بإقامة حكم الله، وتطبيق شرعه، بل نعني بها تعيين الهدف، ووضع الخطة، وتحديد المراحل، بوعي وصدق، بحيث تسلم كل مرحلة إلى ما بعدها بالتخطيط والتنظيم والتصميم، حتى تصل المسيرة إلى المرحلة المنشودة والأخيرة التي فيها قيام الإسلام، كل الإسلام.
وهو نفس المنهاج الذي سلكه النبي ـ ﷺ ـ لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية.
ومن المواقف التي لها مَغْزَى ما رواه المؤرخون عن عمر بن عبد العزيز، الذي يَعُدُّه علماء المسلمين “خامس الخلفاء الراشدين” وثاني العمرين؛ لأنه سار على نَهْج جده الفاروق عمر بن الخطاب: أن ابنه عبد الملك ـ وكان شابًا تَقِيًّا مُتَحْمِسًا ـ قال له يومًا: يا أبتِ، مالكَ لا تنفذ الأمور؟ فواللهِ ما أُبالِي لو أن القدور غَلَتْ بي وبكَ في الحقِّ!!
يريد الشاب التقي الغيور من أبيه ـ وقد وَلاَّه الله إمارة المؤمنين ـ أن يقضي على المظالم وآثار الفساد والانحراف دفعة واحدة، دون تريُّث ولا أناة، وليكن بعد ذلك ما يكون!
ولكنَّ الأب الراشد قال لابنه: لا تَعْجَلْ يا بُنَيَّ، فإن الله ذَمَّ الخمر في القرآن مرتين، وحرَّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدعوه جملة، ويكون من ذا فتنة! “انظر الموافقات للشاطبي: 2/94”
يريد الخليفة الراشد أن يُعالِج الأمور بحكمة وتدرُّج، مهتديًا بسُنَّة الله ـ تعالى ـ في تحريم الخمر، فهو يُجَرِّعهم الحق جُرْعةً جرعة، ويَمضي بهم إلى المنهج المنشود خُطوة خطوة. هذا هو الفقه الصحيح.