قال ﷺ (من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لايتمثل بي ) متفق عليه.
ويرى فضيلة الشيخ الدكتور مصطفى الزرقا أن هذه الرؤيا المذكورة في الحديث خاصة بأصحاب النبي ـ ﷺ ـ الذين رأوه في حياته رؤية حقيقية.
وهذا التفصيل في هذه المسألة كما ذكره الشيخ ـ رحمه الله ـ باختصار وتصرف:
تلقيت هذا الحديث النبوي الشريف من بداية طلبي للعلم، والتلقي عن شيوخنا الأوائل، منذ أن كنا شداة مبتدئين، لا مصدر لنا فيما نتعلم إلا ما نسمعه من شيوخنا. ثم لما شببنا قليلا عن الطوق، وأخذنا بدراسة الفقه وأحكامه بالتفصيل بدأ تفكيري بعد ذلك بضرورة التعمق في دراسة هذا الحديث رواية ودراية، للتوفيق بينه وبين ما يقرره الفقهاء من عدم جواز أخذ الأحكام عن طريق الرؤيا للرسول ـ ﷺ ـ في المنام.
ثم ازداد شعوري بضرورة تلك الدراسة والتمحيص كلما نشر بعض القائمين على أحد المساجد، أو بعض المقيمين في نطاق الحرمين الشريفين، شيئًا من النشرات السنوية بأنهم رأوا الرسول ـ ﷺ ـ في المنام، وقال لهم كيت وكيت، وأن يبلغوا الناس ونحو ذلك، مما ينشره بعض المستغلين للمشاعر الدينية عند عامة المسلمين ودهمائهم.
وكم سمعنا من بعض المريدين من أتباع بعض شيوخ الطرق الصوفية أنه يفعل كذا وكذا من عبادات أو عادات، لأن شيخه أخبره أنه رأى الرسول ـ ﷺ ـ وأمره بذلك.
قد يكون الشيخ صادقًا في أنه رأى ما رأى في منامه، ولكن يبقى هذا بابًا مفتوحًا لاستغلال عقول السذج.
ما قيمة رؤيا النبي في ميزان علم الشريعة:
يقول الشيخ الدكتور مصطفى الزرقا: بعد أن وهبنا الله تعالى من المعرفة ومفاتيحها ما نستطيع أن نخرج به من دائرة الاعتماد المطلق على ما نسمع من شيوخنا الأوائل، وأصبحنا متمكنين أن ننطح المصادر بأنفسنا، وأن نرد الموارد الأصلية، ونغوص فيها ونمحص، رأيت أن أسلك الطريق العلمية الصحيحة في دراسة ما يتعلق بهذا الحديث النبوي الشريف، حديث رؤيا الرسول ـ ﷺ ـ في المنام.
فعمدت قبل كل شيء إلى النظر في سنده وصحته، فإن كان ضعيفًا فقد كفيت العناء، فإذا بي أجد أنه صحيح ومروي من طرق عديدة من عدد من كبار الصحابة رضي الله عنهم، بصيغ وألفاظ مختلفة في بعضها لكنها متقاربة. وقد أخرجه الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما.
ووجدت أن علماء الحديث المحققين، كالعلامة ابن حجر في فتح الباري يتفقون مع الفقهاء في أنه لا تؤخذ الأحكام من هذه الرؤيا، وأن من رأى الرسول ـ ﷺ ـ في منامه يأمره بفعل أو ينهاه فعليه أن يعرض ذلك على أصول الشريعة وقواعدها التي قررها الفقهاء فما وافقها من رؤياه جاز له فعله، وما لا فلا.
وبعد لأي ما وجدت لنفسي التعليل وارتضيته، وهو أن الله تعالى لم يتعبدنا بأخذ الأوامر والنواهي من الرؤيا المنامية مهما كانت، وإنما تعبدنا بأخذ الأحكام والأوامر والنواهي من النصوص، نصوص الكتاب والسنة. وليس في هذا رد لحديث الرؤيا الثابت، ولكن مع التسليم بحصة هذا الحديث، ليست الرؤيا هي الطريق المشروع لأخذ الأحكام، وتلقي الأوامر والنواهي، فلا إشكال.
حديث من رآني في المنام فقد رآني:
آراء الشراح في معنى هذا الحديث:
شراح هذا الحديث النبوي لهم في تفسيره كلام كثير وتصويرات عديدة ويمكن تصنيفهم إجمالاً إلى فريقين:
ـ الفريق الأول: المتحفظين الذين يحددون المقصود بهذا الحديث النبوي، ويقيدون شموله، فيقولون: إن المراد بهذا الحديث من يرى النبي ـ ﷺ ـ في منامه على صورته المعروفة، جريًا مع الرواية التي جاء فيها: “فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي”.
وهؤلاء يفسرون المراد بصورته المعروفة أن يكون الرائي رآه في صورة تتفق مع ما ورد من أوصافه الجسمية، وحليته وهيئته ـ ﷺ ـ .
فأما إذا رآه على حالة مخالفة، كما لو رآه أبيض الشعر مثلا فلا عبرة لرؤياه.
وينقل العلامة ابن حجر دليلا على ذلك يؤيده هو، ما أخرجه الحاكم عن عاصم بن كليب، قال حدثني أبي، قال: قلت لا بن عباس: إني رأيت النبي ـ ﷺ ـ في المنام قال صفه لي، قال: فذكرت الحسن بن علي فشبهته به، قال ابن عباس: قد رأيته. قال ابن حجر: وسند هذا الحديث جيد.
وفي طليعة هذا الفريق من الشراح المتحفظين: محمد بن سيرين، ثم القاضي عياض وهم لا يقيدون مدلول هذا الحديث النبوي بزمان ولا بأشخاص، وإنما يقتصرون على تقييده بأن يرى الرائي الرسول على صورة لا تخالف أوصافه المنقولة ـ ﷺ ـ.
-الفريق الثاني: هم الموسعون وهم الذين يرون أن المراد بهذا الحديث أن كل من رأى النبي ـ ﷺ ـ في المنام فإنه يراه حقيقة، سواء كانت رؤياه إياه على صفته المعروفة أو على غيرها.
وفي طليعة هذا الفريق المازري والنووي، وقد تعقب النووي ما قاله القاضي عياض قال ما نصه:
“هذا الذي قاله القاضي ضعيف، بل الصحيح أن يراه حقيقة سواء كانت على صفته المعروفة أو غيرها كما ذكره المازري”.
لكن العلامة ابن حجر تعقب رأي النووي هذا وقال عنه: “إن هذا الذي رده الشيخ يعني النووي تقدم اعتباره عن محمد بن سيرين إمام المعبرين، وإن الذي قاله القاضي أي عياض هو توسط حسن”.
والرأي الذي انتهيت إليه واطمأنت إليه نفسي في فهم المراد بهذا الحديث النبوي أنه خاص بعصر الرسول ـ ﷺ ـ وعصر صحابته الكرام، وليس له امتداد في الزمان ولا في الأشخاص.
وحينئذ يكون قد انتهى حكمه بوفاة أخر صحابي من الصحابة الكرام الذين عايشوا الرسول ـ ﷺ ـ أو شاهده أحدهم ولو مرة واحدة، وتعرف صورته الحقيقة.
فبعد وفاة كل من كانوا يعرفون هيئته وصورته الحقيقة عن مشاهدة وعيان في حياته صلى الله عليه وآله وسلم انتهى حكم هذا الحديث، ولم يعد ينطبق على من يرى من أهل العصور اللاحقة في منامه شخصًا يقوم في روعه هو، أو يقول له الشخص المرئي نفسه، أو يقال له: إنه الرسول ـ ﷺ ـ فلا يشمل الحديث النبوي المذكور شيئا من هذه الرؤى التي يراها أحد من الأجيال اللاحقة بعد وفاة جميع الذين كانوا يعرفون الرسول ـ ﷺ ـ بصورته وهيئته الحقيقية عن مشاهدة وعيان.
وما الرؤى التي يرى فيها أحد من الأجيال اللاحقة في منامه شخصًا يقال له إنه رسول الله ـ ﷺ ـ إلا كسائر الرؤى التي يرى فيها ما يرى من أشخاص أو أشياء أو أحداث ولا تفترق عن هذه الرؤى العادية في شيء.
ذلك لأن الحديث النبوي المذكور قد اتفقت جميع رواياته التي أوردناها على أن الرسول ـ ﷺ ـ إنما قال: “من رآني” أو قال: “من رآني في المنام”. وضمير المتكلم في قوله: “من رآني” عائد إلى الرسول، أي إلى شخصه بذاته وهيئته، أي بصورته الحقيقية التي كان عليها. وهذا لا يتحقق إلا لمن يعرف صورته الحقيقة. وهم أصحابه الكرام الذين عايشوه، أو رآه أحدهم ولو مرة واحدة. فأما من لم يره ولا يعرف صورته الحقيقة فلا يمكن أن يقال: إنه رأى الرسول ـ ﷺ ـ في منامه، لأنه لا يعرفه بصورته وهيئته الحقيقة، فكيف يصح أن يقال إنه رآه.
بل كل منا في مثل هذه الرؤى أن أصحابها رأوا شخصًا لا يعرفونه، قيل لهم، أو قال هو لهم، أو قام في روعهم أنه الرسول ـ ﷺ ـ وهذا كله من قبيل الأحلام العادية، التي قد يتمثل فيها الشيطان للنائم في صورة شخص ما غير شخصية الرسول الحقيقة، ويوحي الشيطان فيها للنائم أو يقول له إن ذلك الشخص الذي رآه هو الرسول.
فهذه الرؤى كلها لا ينطبق عليها الحديث الذي هو محل البحث، والذي خاطب به الرسول ـ ﷺ ـ صحابته الكرام الذين يعرفونه شخصيًا، بقوله لهم “من رآني” أو “من رآني في المنام”. إذ لا يستطيع أحد بعدهم أن يزعم أنه رأى الرسول ـ ﷺ ـ بصورته الحقيقة، وهو لم يعرفه!!
هذا التفسير وهذا التعليل مستفاد بوضوح من التعبير بياء المتكلم في قوله ـ ﷺ ـ : “من رآني” وهو الصيغة الواردة في جميع الروايات ، وهو واضح كل الوضوح لمن يحسنون فهم النصوص، فهو مقتضي التعبير بياء المتكلم.
ثم إذا نظرنا إلى التعليل الوارد أيضا في نص الحديث بقوله ـ ﷺ ـ “فإن الشيطان لا يتمثل بي” وفي رواية صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه: “فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي” وهكذا ورد فيها التعبير بلفظ: أن يتمثل في صورتي). أقول: إذا نظرنا إلى هذا التعليل الوارد في نص الحديث نفسه والتعابير التي جاءت فيه: “أن يتمثل بي” “أن يتمثل في صورتي” يزداد المعنى الذي ذكرته وضوحًا، وهو أن الحديث مقصور على من يرى الرسول ـ ﷺ ـ بهيئته وصورت الحقيقية التي يعرفها من قبل، كما يدل عليه ضمير المتكلم في قوله “رآني” وقوله: “أن يتمثل بي” وهذا كان كافيًا للدلالة على هذا المعنى، وهو أن هذا الحكم مخصوص بمن يرى الرسول ـ ﷺ ـ بهيئته الحقيقية التي يعرفه بها من قبل، ولكن جاءت رواية مسلم عن جابر رضي الله عنه بلفظ “أن يتمثل في صورتي” حاسمة في الموضوع، ونافية لكل احتمال آخر. فمن الذي يعرف صورته وهيئته الحقيقية عليه الصلاة والسلام إلا من لقبه ؟
ولا ننكر أن أن من الناس قومًا صالحين صادقين يرون في المنام أنهم رأوا الرسول ـ ﷺ ـ في صورة قد تتفق وقد تختلف مع صفاته وحليته المنقولة المدونة، ولكنها – أي رؤياهم – لا تدخل تحت هذا الحديث الذي انقضى حكمه، وإنما هي رؤيا من الرؤى العادية، وتعبر كما يعبر غيرها.
هذا، وقد طرح علي سؤال يقول: إذا صح هذا الفهم في هذا الحديث، واعتبر حكمه موقوتًا ومنتهيًا بوفاة آخر صحابي ممن عرفوا صورة الرسول ـ ﷺ ـ وهيئته الحقيقية، فماذا تقول إذن بالرؤيا الصالحة التي ثبت في السنة الصحيحة أنها تكون صادقة، وورد عند الترمذي أن الرؤيا الصالحة بشرى من الله ، وروي عن عبادة ابن الصامت أنه ـ ﷺ ـ قال: “رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة”.
وأقول إن حديث رؤيا الرسول ـ ﷺ ـ مخصوص بأصحابه الذين يعرفون صورته الحقيقية ولا يشمل من بعدهم من الأجيال (كما استقر عليه رأي وفهمي) لا أقصد به أن كل رؤيا للرسول ـ ﷺ ـ بعد انقراض أصحابه هي رؤيا باطلة حتمًا، أو أضغاث أحلام من الشيطان، بل أقصد أن من يرى الرسول في منامه، ولا يعرف صورته من الأجيال اللاحقة بعد الصحابة الكرام فرؤياه ليس لها تلك الخاصية التي بينها هذا الحديث النبوي موضع هذا البحث. بل هي رؤيا كسائر الرؤى، فيمكن أن تكون من الرؤيا الصالحة، ويمكن أن لا تكون، ما دام الرائي لا يستطيع أن يقول إنه رأى الرسول ـ ﷺ ـ في صورته الحقيقية لأنه لا يعرفها.
ومعلوم أن الرؤيا الصالحة مدارها على ذات الرائي لا على المرئي: فإذا كان الرائي من أهل الرؤيا الصالحة (وهم الصالحون الاتقياء، الورعون الذاكرون لله تعالى باستمرار والمتصلون به بقلوبهم) فإن رؤياه تكون صالحة، سواء أرأى فيها الرسول أم رأى أمورًا أخرى، فإن الرؤيا الصالحة ليس من ضرورتها أن يرى فيها الرسول ـ ﷺ ـ بل قد يرى أمورًا أخرى، فتكون رؤياه صالحة ذات دلالة على ما يقع. وإذا رأى فيها الرسول فهي أيضًا رؤيا صالحة، لكن لا لأنه رأى الرسول ـ ﷺ ـ بل لأن الرائي من أهل الرؤيا الصالحة.
وأما إذا كان الرائي ليس من أهل الرؤيا الصالحة – فإن رؤياه – ولو رأى فيها الرسول ـ ﷺ ـ بحسب ما خيل إليه أو قيل له في المنام – هي رؤيا عادية. وكونه رأى فيها الرسول لا يجعل لها المزية التي جاء بها الحديث النبوي موضوع البحث وهي أنها رؤيا حق وحقيقة بل هي رؤيا من الرؤى العادية، لأنه لم ير الرسول في صورته الحقيقية، التي لا يعرفها إلا صحابته الكرام، والتي عليها (فيما أرى) محمل هذا الحديث الوارد بشأنها أنها كرؤيته والسماع منه في اليقظة.
وأخيرًا ـ وبعد أن نشرت هذا الرأي ـ وقعت بطريق المصادفة، على نص صريح من ذلك في كتاب القوانين الفقهية للعلامة ابن جزي المالكي في الباب الثالث عشر على الرؤيا في المنام، حيث يتكلم عن الرؤى المنامية وحقيقتها عند المحققين وأنها: “أمثلة جعلها الله دليلا على المعاني كما جعلت الألفاظ دليلا على المعاني” ثم بين أنواع الرؤى وما يعبر منها وما لا يعبر، ثم قال: قال ـ ﷺ ـ من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بي”. وقال العلماء: لا تصح رؤيا النبي ـ ﷺ ـ قطعًا إلا لصحابي رآه حافظ صفته حتى يكون المثال الذي رآه في المنام مطابقًا لخلقته ـ ﷺ ـ انتهى كلام ابن جزي (القوانين الفقهية ص/379/ط. دار الفكر).
فلما قرأت ذلك شعرت كأني قد وقعت على كنز ثمين !! وحمدت الله تعالى على ما وفقني إليه من الفهم السديد في هذا الموضوع، وتيقنت صحة هذا الفهم.