اختلف الفقهاء في الأخذ برخص المذاهب والتلفيق بين الآراء، والتحقيق أن التلفيق بين الآراء جائز إن كان لمصلحة مرجوة أو لحاجة ماسة، ولم يكن القصد منه هدم شيء في الشريعة، أو التساهل في الأخذ بالأحكام، أو ينقض حكم حاكم في المسألة، أو يكون عامدا في تتبع الرخص .
يقول الدكتور: وهبة الزحيلي – رحمه الله تعالى – :
السائد بين الناس وفي المذاهب أن التلفيق لايصح، ولكن التحقيق لدى العلماء أنه يجوز عند الضرورة أو الحاجة بشرط:
1- ألا يؤدِّي إلى ما هو باطل إجماعاً.
2- وألاّ يؤدِّي إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحِكْمتها.
3- وألا يشتمل على تتبُّع الرخص عَمْداً.
4- وألا يكون بعد العمل بمذهبٍ معيَّن.
5- وألاّ يؤدي إلى نقض حكم الحاكم الذي قضى في المسألة.
والتلفيق هو الإتيان بكيفية لايقول بها كلُّ إمام إذا عُرض عليه الوضعُ الحاصل، كمن توضأ ولم يمسح إلا بعض رأسه تقليداً للشافعي، ثم خرج منه دم وسال ولمس امرأتَه، فهذا الوضوء على الحالة التي صار إليها المتوضئ، هل تصح الصلاة به أو لا؟ إذا عُرض ذلك على الإمام الشافعيَّ فلا يُقِرُّه بسبب لمس المرأة، وإذا عُرض على الإمام أبي حنيفة فلا يُجيزه بسبب خروج الدم وكوْنِ المسح على أقل من رُبْع الرأس، وكذلك لو عُرض على الإمامين مالكٍ وأحمدَ فلا يُقرّانه، لأنه يُشترط عندهما مسحُ جميع الرأس.
والواقع أنه يجوز أداء الصلاة بهذا الوضوء عند الضرورة أو الحاجة. وهي عامّة وكثيرةُ الوقوع في الحياة بسبب الانهماك في الأشغال، لأن المصلي يقلِّد كلَّ إمام فيما لايقول به الآخر. ومجموع المسألة لم يَقُلْ أحد بالنظر إليها، وإنما التقليد في المسألتين أمر منفصل، كلٌ منهما عن الأخرى، والعبادات مبنيّة على التسامح.
أما إن أدّى التلفيق إلى هدم دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتها فهو حرام وباطل، كمن تزوج امرأة بلا وليٍّ ولا شهود، مقلِّداً أبا حنيفة في عدم اشتراط الولاية، ومقلِّداً الإمام مالكاً في عدم اشتراط الشهادة بذاتها، ويكفي إعلان الزواج، وإن كان الراجح في المذهب المالكي أنه لابد من الشهادة. ولو بعد العقد، لجواز المعاشرة، فهذا الزواج باطل كالزنا تماماً، لأن الأصل في الأبْضَاع (أي الفروج) التحريم.
ومن طلّق امرأته بلفظ ((البتة)) وكان حين الطلاق يرى أن هذا التعبير فسخ الزواج وليس طلاقاً بالثلاث، فله العَوْدة إلى الحياة الزوجية، لعدم تصوُّرِه وقوع الطلاق. أما إن كان يرى كوْنَ ذلك طلاقاً بائناً بينونة كبرى فلا يحل له العودة إليها.
وإذا كان القصد من التلفيق مجرّدَ العَبَث، وبقصد تتبُّع رُخَص المذاهب، والعمل بأيسرها وأسهلها لديه، بحيث يؤدِّي ذلك إلى التحلُّل من الأحكام الشرعية، فلايجوز التلفيق، كمن يتحايل على إخراج الزكاة قُبَيْل نهاية الحَوْل الزَّكَوِي لديه بهبة ماله لشخص ثم استرداده: فهذا حرام لايجوز بحال لأنه يؤدي للتخلُّص من الفريضة وإن قلّد في ذلك مذهب الحنفيّة، ومن تَتَبَّع الرخص في عقد زواج التحليل للبائن بينونة كبرى على صبيٍّ دون البلوغ مقلَّداً مذهب الشافعية من غير شروطهم لم يصح.
وكذلك إن كان قصدُه مجرّدَ العبث واللهو لا لضرورة ولا لحاجة فلا يجوز.
ولا يجوز التلفيقُ أو تتبّعُ الرخص المذهبية بعد أن يفصل الحاكم في الموضوع، لأن حكمه يرفع الخلاف.
وكذلك إن عَمِل المقلد أو طبَّقَ المذهب في حادثة فلا يجوز أن يَعْدِلَ بعد العمل للأخذ بمذهب آخر، عملاً بمبدأ استقرار الأحكام. أما قبل العمل بمذهب، فلامانع من الأخذ بغيره في جزئية، وإن ظل على العمل بمذهبه في المسائل الأخرى.