تحريم ما حرَّمه اللهُ مِن المطعومات إنما هو في حالة الاختيار؛ حيث لا ضرورة تُلجئ إلى تناوُل شيءٍ منه، لكن إذا وُجدت الضرورة التي تدعو إلى تناوُل شيء منه أُبيح تناول ما تدعو إليه الضرورة، إبقاءً للحياة وحفظًا للصحة ودفعًا للضرر، ولهذا فالخمر والميتة والغدد أو العصارات المتخذة من الخمر سواءٌ في حِلِّ التداوي به متى تعيَّن دواء من طبيب حاذق .
فيقول الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق-رحمه الله-:
حرم الإسلام شُرب الخمر حفظًا للعقول، وحرم الدم المسفوح، والميتة والخنزير، حفظًا للصحة. وقد جاء كل ذلك صريحًا في القرآن الكريم: (يا أيُّها الذينَ آمنوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصاب ُوالأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشيطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لعلَّكمْ تُفْلِحُونَ). (الآية: 90 من سورة المائدة). (قُلْ لا أَجِدُ في مَا أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّمًا علَى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أنْ يَكونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا أوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنَّهُ رِجْسٌ). (الآية: 144 من سورة الأنعام).
وقد جاء عقب تحريم هذه المَطعومات قوله ـ تعالى ـ: (فمَنِ اضْطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فإنَّ رَبَّكَ غَفورٌ رحيمٌ). (الآية 145 من سورة الأنعام). وفي تعبير آخر: (فلا إثْمَ عليهِ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ). (الآية: 173 من سورة البقرة)، ودلَّ هذا التعقيب، الذي هو بمَثابة الاستثناء، على أن تحريم ما حرَّمه اللهُ مِن هذه المعلومات إنما هو في حالة الاختيار؛ حيث لا ضرورة تُلجئ إلى تناوُل شيءٍ منه. ودلَّ على أنه إذا وُجدت الضرورة التي تدعو إلى تناوُل شيء منه أُبيح تناول ما تدعو إليه الضرورة، إبقاءً للحياة وحفظًا للصحة ودفعًا للضرر، ومِن هنا يُؤخذ أن شريعة الإسلام تُبيح للمسلم أن يُزيل الغُصَّة بتناوُل الخمر إذا لم يجد ما يُزيلها سوى الخمر.
التداوي بالمُحرمات:
وتكلَّم الفقهاء بمناسبة ذلك على التداوي بالمُحرَّم، والصحيح مِن آرائهم ما يلتقي مع هذا الاستثناء الذي صرَّح به القرآن في آيات التحريم: (فمَنِ اضْطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثْمَ عليهِ). ونُزولًا على حُكم قوله: (غيرَ باغٍ ولا عادٍ) كانت الإباحة مَقصورة على القدْر الذي يزول به الضرر، وتعود به الصحة ويتمُّ به الصلاح.
ومِن ذلك اشترطوا شرطينِ:
أحدهما: في الطبيب الذي يُعالج ويصف الدواء، وهو أن يكون طبيبًا إنسانيًّا حاذقًا مَعروفًا بالصدق والأمانة.
والآخر: ألا يُوجد مِن غير المُحرَّم ما يقوم مقامه في العلاج ليكون مُتَعَيِّنًا، ولا يكون في متناوله أو الإشارة بتناوله بغْيٌ على التشريع، ولا عدوان يتجاوز به قدْر الضرورة.
وهذا هو الصحيح الذي نُفتي به، ولا فرق فيه بين مُحرَّمٍ ومُحرَّم، فالخمر والميتة والغدد أو العصارات المتخذة من الخمر، كل ذلك سواءٌ في حِلِّ التداوي به متى تعيَّن دواء من مثل الطبيب الذي وصفناه.
يُسْرُ الإسلام:
ومِن هنا. المُقرَّر في الإسلام أن الضروراتِ تُبيح المَحظورات. وقد كان مِن يُسر الإسلام وسماحته ـ في الفروض والواجبات ـ جواز ترْكها أو تأخيرها عن وقتها إذا ترتَّب على فعلها للإنسان ضررٌ أو خِيفَ بغلبة الظن ـ أخذًا من التجارِب ـ أن يترتَّب على ذلك ضررٌ.
نرى ذلك في استعمال الماء للطهارة، وفي الصوم، بل وفي الصلاة، إذا خيفَ الضررُ مِن شيء منها (يُريدُ اللهُ بكمُ اليُسْرَ ولا يُريدُ بكمُ العُسْرَ). (وما جَعَلَ عليكمْ في الدِّينِ مِن حَرَجٍ)، وهذا هو أصلٌ مِن أصول التشريع في الإسلام يَبني عليه، حينما يُحرم ما يحرم، وحينما يُبيح ما يُبيح.