عدة المرأة أمر واجب بالكتاب والسنة سواء تأكدت من براءة الرحم أم لم تتأكد من ذلك، أما الحكمة فمحل خلاف بين الفقهاء، وسواء توصلنا إلى الحكمة التي أرادها الله أم لا فنحن مأمورون بالاتباع فيما يخص أمور التعبد لله تعالى .
يقول الأستاذ الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر:
زعم البعض أن تربُّص المرأة مدة العدة أيًّا كانت، إنما هو لتبيُّن مدى براءة الرحِم من الحمل، حتى إذا ما أمكن معرفة هذه البراءة بوسيلة من الوسائل الطبية، فلا معنى لتربُّص المرأة هذه المدة، وقد زَيَّن لهذا البعض شياطينُهم أن بوُسْعِهم بعد هذا إلغاء أحكام العِدَّة من الشريعة، بل وإلغاء نصوصها من الكتاب والسنَّة، لعدم الحاجة إليها، وفي البداية نُقَرِّر أن الفقهاء متفقون على أن تربُّص المرأة المدخول بها مدة العدة أمر أوجبه الشارع عليها، سواء كانت تعتد من طلاق أو وفاة زوجها أو بسبب فسخ النكاح، بل إن جمهور الفقهاء يَرَوْنَ وجوب العدة عليها وإن لم يدخل بها الزوج، إذا كان قد اختلى بها خَلْوَة شرعية صحيحة، ومما يدل لوجوب العدة على المرأة قول الله، تعالى )والمطلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بأنفُسِهِنَّ ثلاثةَ قُروءٍ)البقرة : 228، وقوله سبحانه: (والذينَ يُتَوَفَّوْنَ منكم ويذَرُونَ أزواجًا يتربَّصْنَ بأنفُسِهِنَّ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا) البقرة : 234 ، وقوله جل شأنه: (واللائي يَئِسْنَ من المحيضِ من نسائِكُمْ إنِ ارتَبْتُمْ فعِدَّتهُنَّ ثلاثةُ أشهرٍ واللائِي لَمْ يَحِضْنَ) الطلاق :4 ، وقوله، تعالى: (وأُولاتُ الأحمالِ أجَلُهُنَّ أنْ يضعْنَ حَمْلَهُنَّ) الطلاق :4 فهذه الآيات، وإن كانت خبرية من حيث اللفظ، إلا أنها تُفيد الإنشاء من حيث المعنى، فتفيد الأمر بما ورد فيها من أحكام العِدَّة، والأمر يقتضي الوجوب، وقيل: إن الفعل مُقتَرِن بلام الأمر، وتقديره: لِيتَرَبَّصْنَ، فحُذِفَت اللام، والفعل المُقتَرِن بلام الأمر يُفيد الوُجوب، فأفادت هذه الآيات وجوب العدة على المرأة المطلَّقة المدخول بها، حاملًا أو غير حامل، والمرأة المتوفَّى عنها زوجها دخل بها أو لم يدخل حاملًا أو حائلًا، وقد حكى ابن العربي وابن قدامة وغيرهما إجماع الفقهاء على وُجوب العدة على المرأة، إلا أن تكون مُطَلَّقة قبل الدخول بها، فلا عدة عليها .
وقد أجهد بعض العلماء أنفُسَهم للوُقوف على حكمة مشروعية العدة، وتوَصَّلوا من خلال اجتهادهم إلى معرفة حكمة مشروعية بعض أنواعها ولم يتوصلوا إلى معرفة حكمة مشروعية البعض الآخر؛ إذ رأَوْا أن شرعية العدة في الطلاق الرجعي لتمكين المطلَّق من العود لمطلقته أثناء العدة بعد زوال سبب التطليق، حرصًا من الشارع على إبقاء الرابطة الزوجية، ورأوا أن شرعيتها في الطلاق البائن أو الفُرْقة لفساد العقد أو الوطء بشبهة لاستبراء الرحم، منعًا من اختلاط الأنساب، ورأوا أنها شُرِعت في حال وفاة الزوج، لتذكُّر نعمة الزواج، ورعاية حق الزوج وإظهار التأثُّر بفقده، وصَوْن كرامة المرأة وسُمعتها من أن يتحدث الناس بأمرها، إذا خرجت أو تزيَّنت دون تربُّص مدة العدة، ورأى بعضهم أن المقصود الأعظم من العدة هو حفظ حق الزوج دون معرفة براءة الرحِم، ولهذا اعتُبرت عدة الوفاة بالأشهر، ووجبت العدة على المتوفَّى عنها غير المدخول بها تعبدًا ومراعاةً لحق الزوج، وما من قول من هذه الأقوال إلا وهو قابل للمناقشة، ولكن سواء كانت حكمة مشروعية العدة هي ما ذكره هؤلاء الفقهاء أو غيرها، فإن الواجب على المكلفين الامتثال لما كلَّفهم الشارع به، سواء أدركوا الحكمة من مشروعية التكاليف أو لم يدركوها؛ لأن حكمة المشروعية منها لا أثر له في وجوب الامتثال، ولهذا فإن تعليل البعض لوجوب تربُّص المرأة مدة العدة بأنه لاستبراء الرحم لا يقتضي سكوت الواجب إذا أمكن معرفة براءة رحم المرأة من الحمل بالتحاليل الطبية، وإلا لزم منه سقوط التكاليف الشرعية الأخرى، وإذا أمكن تحقيق حكمة المشروعية منها من غير الإتيان بها، فتسقط فرضية الصيام إذا كان المكلَّف صبورًا يحنو على المحتاجين ويشعر بآلامهم ومُعاناتهم، وتسقط فرضية الحج إلى بيت الله الحرام، إذا أمكن للمكلَّفين التعارُف وتبادل المنافع بغيره، أو بالاجتماع في موضع آخر غير هذا البيت، وتسقط حرمة الزنا إذا لم يترتب عليه اختلاط الأنساب، إلا أن هذا اللازم باطل، فبطل الملزوم، وهو إسقاط فرضية العدة والالتجاء إلى التحاليل الطبية، لمعرفة مدى براءة رحم المرأة المُطلَّقة أو المتوفَّى عنها من الحمل، ومِن ثَمَّ فإن المُطالبة بإلغاء أحكام العدة، أو إلغاء النصوص الشرعية التي تضمنت هذه الأحكام خروج عن المِلَّة؛ لما يترتَّب عليه من إنكار ما عُلِم من الدين بالضرورة، فضلًا عما فيه من العبَث بالثوابت الإسلامية.