قال علماء التجويد: تجويد القرآن الكريم واجب وجوبًا شرعيا يُثاب القارئ على فعله ويعاقب على تركه، وهو فرض عين عَلَى من يريد قراءة القرآن؛ لأنه نزل على نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُجودًا، ووصل إلينا كذلك بالتواتر . وقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” إن الله يحب أن يُقرأ القرآن كما أُنزل ” .

ورد عن فضيلة الشيخ أحمد الشرباصي – رحمه الله تعالى -:ـ

الإتقان مطلوب وواجب شرعًا في قراءة القرآن الكريم، ويعبر عن الإتقان هنا بالترتيل أو التجويد، لأن الترتيل هو التنضيد والتنسيق وحسن النظام، وفي الترتيل أيضًا معنى الإتقان والإحسان، ولذلك روي أن علقمة سمع رجلاً يقرأ قراءة حسنة متْقَنة، فقال عنه: لقد رتَّل القرآن فداه أبي وأمي. وقد جاء في القرآن الكريم قوله ـ تبارك وتعالى ـ: (ورَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل: 4).

وقد يُعبر عن إتقان القراءة بكلمة “الحذق”؛ لأن الحذق هو الإتقان، وقد جاء في حديث زيد بن ثابت قوله: “فما مر بي نصف شهر حتى حذقته” أي عرفته وأتقنته، كما في النهاية. وفي إتقان القراءة روى البخاري عن أنس أنه سئل: كيف كانت قراءة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟فقال: “كانت مَدًّا (أي ذات مدِّ فيما يُمَدّ) ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد- ببسم الله، ويمدُّ بالرحمن ويمد بالرحيم”. وروى الترمذي عن أم سلمة قالت: “كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقطع قراءته، يقول: الحمد لله رب العالمين، ثم يقف. الرحمن الرحيم. ثم يقف “.
وفي بيان كيفية الإتقان في قراءة القرآن يقول الزركشي في كتابه “البرهان في علوم القرآن”:” فحقُّ على كل امرئ مسلم قرأ القرآن أن يرتله، وكمال ترتيله تفخيم ألفاظه، والإبانة عن حروفه، والإفصاح لجميعه بالتدبر، حتى يصل بكل ما بعده، وأن يسكت بين النفس والنفس حتى يرجع إليه نفسه، وألا يُدغِم حرفًا في حرف؛ لأن أقل ما في ذلك أن يسقط من حسبانه بعضها، وينبغي للناس أن يرغبوا في تكثير حسناتهم، فهذا الذي وصفت أقل ما يجب من الترتيل. وقيل: أقل الترتيل أن يأتي بما يبين ما يقرأ به وإن كان مستعجلاً في قراءته، وأكمله أن يتوقف فيها، ما لم يخرجه إلى التمديد والتمطيط فمن أراد أن يقرأ القرآن بكمال الترتيل فليقرأه على منازله، فإن كان يقرأ تهديدًا لفظ به المتهدد، وإن كان يقرأ لفظ به على التعظيم.
وينبغي أن يشغل قلبه في التفكير في معنى ما يلفظ بلسانه، فيعرف من كل آية معناها. ولا يجاوزها إلى غيرها حتى يعرف معناها. وكذلك من إتقان الترتيل أنه إذا مر بآية رحمة فرح بوعد الله تعالى واستبشر، وإذا قرأ آية عذاب خاف واستعاذ، وإذا مر بآية توبة تذكر ذنوبه واستغفر وتاب، وإذا مر بآية لم يعرف معناها سأل عنها من يعرف. فإذا فعل ذلك يكون قد قام بكمال ترتيل القرآن.
ولقد ذكر العلماء للقراءة ثلاث كيفيات، هي التحقيق، وهو – كما ذكر السيوطي في الإتقان – إعطاء كل حرف حقه من إشباع المد، وتحقيق الهمزة، وإتمام الحركات، واعتماد الإظهار والتشديدات، وبيان الحروف وتفكيكها وإخراج بعضها من بعض، بالسكت والترتيل والتؤدة، وملاحظة الجائز من الوقوف، بلا قصر ولا اختلاس ولا إسكان محرك ولا إدغامه.
ولقد قال عبد الله بن عباس: لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتِّلُهما وأتدبَّرُهما أحبُّ إلي من أن أقرأ القرآن كله هَذرمة. والهَذرمة هي السرعة في الكلام، ويقال للتخليط هذرمة.
وقال أيضًا: لأن أقرأ “إذا زُلزِلتْ” و”القارعة” أتدبرهما أحبُّ إلي من أن أقرأ “البقرة” و”آل عمران” تهذيرًا. والهذَر ـ بالتحريك ـ الهذيان، وقد يُراد منه سرعة القراءة بلا وعي ولا تدبر. ولقد قال الغزالي: “اعلم أن الترتيل مستحب لا لمجرد التدبُّر، فإن العجميّ الذي لا يفهم معنى القرآن يستحب له في القراءة أيضًا الترتيل والتؤدة؛ لأن ذلك أقرب إلى التوقير والاحترام، وأشدّ تأثيرًا في القلب من الهذرمة والاستعجال”.
ولكن ينبغي ألا ننسى أن المقصد الأساسي من قراءة القرآن هو التفكر والتدبر للألفاظ والاعتبار، ولذلك كان إتقان التلاوة مطلوبًا؛ لأنه المعين على ذلك. وهكذا نرى أن الدين يدعونا إلى الإتقان في كل مجال من مجالات الحياة: يدعونا إلى الإتقان في التفكير حتى لا نعتقد إلا ما كان حَقًّا وصوابًا، وإلى الإتقان في القول حتى يكون كلامنا طيبًا رشيدًا، وإلى الإتقان في العمل حتى يكون سليمًا نافعًا، وإلى الإتقان في العبادة حتى تكون خالصة طاهرة، وإلى الإتقان في السلوك حتى يكون نماذج طيبة للإنسان الفاضل في هذه الحياة.