إنفحة الجبن:
ومن المعلوم أن الإنفَحَة في أوربا تُستخرج عادة من معدة البقرة، بيد أن التعبير المذكور في الدساتير الغذائية الذي يسمح باستعمال الخمائر الأخرى المخثَّرة المناسبة لا يحدد نوع هذه الخمائر ولا مصدرها، وبالتالي يمكن أن تَضمَّ خميرةَ” الببسين” المستخرَجة من معدة الخنزير، ولهذا فإن الصناعات الغذائية مخيَّرة في استعمال أي من الخمائر المخثَّرة في تحضير الجُبْن، والتي قد تشمل خميرة الإنفَحَة البقرية، أو إنفَحَة المُجْتَرَّات الأخرى، أو خميرة الببسين الخنازيرية، أو الخمائر المستخرَجة من بعض الجراثيم أو الفطريات، ولا يستطيع المسلم أن يحصل على المعلومات المتعلقة بمصدر الخميرة بسهولة، وقد يتوقف عن تناول الجُبْن تورعًا.
وليست هذه دعوة إلى التوقف عن تناول الجُبْن تورعًا عن تناول ما يشك في استعماله على محرَّم، وإنما هي دعوة للوقوف على حكم الشرع في أنواع الإنفَحَة وحكم تناول الجُبْن الذي حضِّر بها.
الإنفحة المأخوذة من حيوان ماكول اللحم بعد تذكيته:
وفصَّل في ذلك الشافعية، إذ يَرَون أن الإنفَحَة إذا أُخذت من حيوان مأكول اللحم بعد ذبحه فهي طاهرة إذا لم يَطعَم غيرَ اللبن، فإذا طَعِمَ غيرَ اللبن كانت نجسةً، إلا أنه يُعفَى عن نجاستها في صناعة الجُبْن بها للحاجة إليها وعموم البلوى بها ومشقة الاحتراز عنها.
ولا خلاف بين الفقهاء على حلِّ تناول الجُبْن المحضَّر بإنفَحَة حيوان مأكول اللحم إذا ذُكِّيَ ذكاة شرعية.
الإنفحة المأخوذة من الخنزير:
“لا يحلّ لمسلم استعمال الخمائر والجيلاتين المأخوذة من الخنازير في الأغذية، وفي الخمائر والجيلاتين المتخَذَة من النباتات أو الحيوانات المُذَكّاة شرعًا غُنْيَةٌ عن ذلك”.
حكم من جهل من أين أخذت الإنفحة:
وأما إذا أخذت الإنفَحَة من ميتة حيوان آخر غير الخنزير أو من حيوان مُذَكًّى ذكاةً غير شرعية فهي إنفَحَة نجسة عند جمهور الفقهاء أبو يوسف ومحمد من الحنفية، والمالكية والشافعية والحنابلة إلا أنه يحلّ تناول الجُبْن المحضّر بها عند الأكثرين من جمهور الصحابة رضوان الله عليهم، وأبي حنيفة والشافعية والحنابلة وبعض المالكية لما رُوي أن الصحابة أكلوا الجُبْن لما دخلوا المدائن، وهم يحضّرونه من الإنفَحَة التي تؤخذ من صغار الماعز التي يذبحونها، وذبائحهم مَيتة. ورُوي عن عمر بن شُرَحْبِيلَ قال: سئل عمر ـ رضي الله عنه ـ عنه الجُبْن وقيل له: إنه يُعمل بإنفَحَة الميتة. فقال: سَمُّوا أنتم وكُلُوا. وقال بمثل قوله هذا عليٍّ رضي الله عنه.
ومن ثَمَّ فإن مَنْعَ تناولِ الجُبْن المحضّر من إنفَحَة معيَّنة محصور في نطاق ضيق لا يترتب عليه الوقوع في الحرج أو الضيق، وهذا وغيره دليل على يسر هذا الدين ورفعه الحَرَجَ والضيق عن مُعتنقيه، وصدق الله العظيم إذا يقول: (يريدُ اللهُ بكم اليُسرَ ولا يريدُ بكم العُسرَ) ويقول: (وما جعَل عليكم في الدين من حرج) وصدق رسوله الكريم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إذ يقول: “إن الدين يُسْرٌ”. فلا عَنَتَ يَلحَق المكلَّفين به ولا حَرَجَ.