كل ما يتصل بوضع الدواء في الأذن أو العينين وكذلك تكحيل العينين في نهار رمضان، ومثل ذلك الحقنة الشرجية هذه كلها أشياء ربما يصل بعضها إلى الجوف ولكنها لا تصل إلى الجوف من منفذ طبيعي وليس من شأنها أن تغذي ولا أن يشعر الإنسان بعدها بانتعاش أو نحو ذلك.

و قد اختلف العلماء قديماً وحديثاً في شأنها ما بين متشدد وما بين مترخص . فمن العلماء من حكم بأن هذه الأشياء مفطرة . ومنهم من قال بأن هذه الأشياء ليست منفذاً طبيعياً إلى الجوف فهي لذلك لا تفطر.

فاستعمال الكحل ومثله القطرة في العين ومثل ذلك التقطير في الأذن وكذلك وضع المراهم ونحوها في الدبر لمن عنده مرض البواسير وما شابه ذلك، والحقنة الشرجية أيضاً  -وهي التي يستعملها من يشكو الإمساك ـ كل هذه الأمور أرى أنها لا تفطر، وهذا الذي اختاره ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه، فقد ذكر تنازع العلماء في هذه الأشياء ثم قال : والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فإن الصيام من دين الإسلام الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام.

فلو كانت هذه الأمور مما حرمه الله ورسوله في الصيام ، ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة ، كما بلغوا سائر شرعه ، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً ، علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك ، قال : والحديث الذي يروى في الكحل ضعيف ، وقال يحيى بن معين : هذا حديث منكر .

هذه هي فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية وهي مبنية على أصلين:

الأول: أن الأحكام التي تعم بها البلوى ويحتاج إلى معرفتها جمهور الناس يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم بيانها للأمة ، فإنه المبين للناس ما نزل إليهم ، قال تعالى : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل : 44 ، كما يجب على الأمة أن تفعل هذا البيان من بعده . هذا أصل .

والأصل الثاني: أن الاكتحال والتقطير في الأذن ونحوها مما لم يزل الناس يستعملونه من أقدم العصور فهو مما تعم به البلوى ، شأنه شأن الاغتسال والادهان والبخور والطيب ونحوها ، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ، كما بين الإفطار بغيره ، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن .. أي زيت الشعر ونحوها ..

قال ابن تيمية :والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل إلى الدماغ ، وينعقد أجساماً ، والدهن يشربه البدن ، ويدخل إلى داخله ويتقوى به ، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة ، فلما لم ينه الصائم عن ذلك ، دل على جواز تطيبه وتبخره ودهنه وكذلك اكتحاله . ومن جملة ما قال ابن تيمية في هذه الفتوى : أن الكحل لا يغذي البتة ، ولا يدخل أحد كحلا إلى جوفه ، لا من أنفه ولا من فمه ، وكذلك الحقنة ( يعني الشرجية ) لا تغذي بل تستفرغ ما في البدن ، كما لو شم شيئاً من المسهلات ، أو فزع فزعاً أوجب استطلاق بطنه ، وهي لا تصل إلى المعدة .. وهذا كلام جيد وفهم عميق لفقه الإسلام .