جاء في كتاب فقه الطهارة لفضيلة الدكتور الشيخ العلامة يوسف القرضاوي-رحمه الله تعالى- باختصار وبتصرف يسير:
إذا كانت الخمر تخللت – أي تحولت إلى خل – بنفسها، فهي حلال، وطاهرة بالإجماع.
وإذا كانت تخللت بمعالجة وعمل متعمد، كوضع ملح أو خبز، أو بصل أو خل أو مادة كيميائية معينة، فقد اختلف فيها الفقهاء:
فمنهم من قال : تطهر، ويحل الانتفاع بها، لانقلاب عينها ، وزوال الوصف المفسد فيها.
ومنهم من قال : لا تطهر، ولا يحل الانتفاع بها؛ لأنا أمرنا باجتنابها ( فاجتنبوه ) وفي التحليل اقتراب منها ، فلا يجوز .
و قد جاء في ذلك حديث أنس عند أبي داود: أن أبا طلحة سأل رسول الله ﷺ عن أيتام ورثوا خمراً، فقال: “أهرقها” فقال: أفلا أجعلها خلاً؟ قال: “لا” فدل على أنه لا يجوز، ولأنه لو جاز لندبه إليه لما فيه من إصلاح مال اليتيم. ولما روي عن عمر قال: لا تأكل خلا من خمر أفسدت، حتى يبدأ الله بفسادها، وذلك حين طاب الخل. ولا بأس على امرئ أصاب خلا من أهل الكتاب أن يبتاعه، ما لم يعلم أنهم تعمدوا إفسادها .
يعني بما بدأ الله بفساده: ما تحول بنفسه من خمر إلى خل دون معالجة .
ولأنه – حسب قول الشيرازي في المهذب ـ إذا طرح فيها الخل نجس الخل، فإذا زالت بقيت نجاسة الخل النجس، فلا يطهر، انتهى .
قال الإمام النووي في ( المجموع ): إذا انقلبت الخمر بنفسها خلاً، تطهر عند جمهور العلماء. ونقل القاضي عبد الوهاب المالكي فيه الإجماع. وحكى غيره عن سحنون: أنها لا تطهر .
وأما إذا خللت بوضع شيء فيها، فمذهبنا أنها لا تطهر، وبه قال أحمد والأكثرون. وقال أبو حنيفة و الأوزاعي والليث: تطهر .
وعن مالك ثلاث روايات: أصحها عنه: أن التخليل حرام، فلو خللها طهرت. والثانية: حرام ولا تطهر. والثالثة: حلال وتطهر .
وفي كتب المالكية: الراجح: جواز التخليل .
وذكر الإمام الخطابي في (معالم السنن): ورخص في تخليل الخمر ومعالجتها عطاء بن أبي رباح، وعمر بن عبد العزيز: وإليه ذهب أبو حنيفة .
وكره ذلك سفيان وابن المبارك .
روى أبو عبيد في (الأموال) بسنده عن عطاء: في رجل ورث خمرا! قال: يهريقها. قيل: أرأيت إن صب عليها ماء، فتحولت خلا؟ قال: إن تحولت خلا فليبعه .
وروى أبوعبيد أيضا بسنده عن المثنى بن سعيد قال: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن –وهو عاملة على الكوفة-: أن تُحمل الخمر من رستاق إلى رستاق، وما وجدت منها في السفن فصيرة خلا. فكتب عبد الحميد إلى عامله بواسط، محمد المنتشر- بذلك، فأنى السفن، فصب في كل راقود (دن كبير) ماء وملحا، فصيره خلا .
قال أبو عبيد: فلم يحل عمر بينهم وبين شربها؛ لأنهم على ذلك صولحوا. وحال بينهم وبين التجارة فيها. (لأنها لم تكن مما شرط لهم). وإنما نراه أمر بتصييرها ولو كانت لمسلم، ما جاز إلا هراقتها في الأرض.
وهذا التفسير من أبي عبيد لتصرف عمر بن عبد العزيز يخالف ما فهمه الخطابي: أن يرخص في تخليلها ومعالجتها بإطلاق، أي للمسلم وغير المسلم .
وروى أبو عبيد عن المبارك بن فضالة عن الحسن: في رجل ورث خمرا أيجعلها خلا؟ قال: كان يكرهه .
أي على سبيل التنزه والتورع والبعد عن الشبهات، كما ذكره الخطابي عن سفيان وابن المبارك.
والذي يترجح عندي: أن الخمر إذا صارت (خلا) طهرت وحلت، لأنها استحالت من عين إلى أخرى، تغيرت صفاتها، فيجب أن يتغير حكمها، كما نقول في كل النجاسات المستحيلة، سواء استحالت بنفسها أم بفعل فاعل.
والخمر نفسها كانت عينا حلالا من العنب وغيره، فلما استحالت إلى مادة مسكرة حرمت، فإذا تغيرت وزال وصف الإسكار، زالت الحرمة، وعادت إلى الحكم الأصلي.
على أن من المستبعد أن يغير القوم الخمر إلى خل عامدين، إذ الخمر عندهم أهم وأغلى ثمنا من الخل، فلا يتصور أن يحولوها إلى خل ليخسروا فيها، وهم يركضون وراء الكسب المادي .
ومنطق الحنفية ومن وافقهم قوي، لأن التخليل –مثل التخلل- يزيل الوصف المفسد، وهو الإسكار، ويثبت وصف الصلاحية، لأن فيه مصلحة التغذي والتداوي وغيرهما، ولأن علة التنجس والتحريم هي الإسكار، وقد زالت، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما. قال الإمام الطحاوي في (شرح مشكل الآثار) :
ولأن التخليل إصلاح، فجاز قياسا على دبغ الجلد النجس، فقد صح في الحديث:”إذا دبغ الإهاب فقد طهر ”
يؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: “نعم الإدام الخل” مطلقا، من غير تفريق بين خل وآخر، ولا طلب منا البحث عن أصله ماذا كان.وقد روى أبو عبيد علي: أنه اصطبع (أي انعدم) بخل الخمر. وعن ابن عون: أن ابن سيرين كان لا يسميه (خل الخمر) ويسميه (خل العنب) وكان يأكله.
وفي عصرنا عندما يشترى الخل، يعرض على المعامل العلمية ومختبرات التحليل، وهي تبحث في المادة الموجودة، وتصدر حكمها بناء على العناصر المكونة لها، ولا تنظر إلى أصلها أي شيء كان .
وأما حديث أنس وسؤال أبي طلحة وتشديد النبي عليه، فيظهر أن ذلك كان من باب التغليظ عليهم في أول الأمر، حتى يفطمهم فطاما تاما عن الخمر، وعن مجرد الاقتراب منها، ولو لإصلاحها. يدل على ذلك: رواية الترمذي في حديث أنس الذي احتج به الشافعي وأحمد ومن وافقهما، فقد رواه عن أنس عن أبي طلحة، أنه قال: يا نبي الله! إني اشتريت خمرا لأيتام في حجري؟ قال: “أهرق الخمر، واكسر الدنان “.
أما إهراق الخمر، فهو المطلوب، حتى لا ينتفع بها، فلماذا تكسر الدنان؟ أي أواني الخمر، مع أن تطهيرها بالغسل ميسور، والأصل أنها مال، وهو منهي عن إضاعته؟
والجواب: أن هذا كان من باب الردع والشديد عليهم في أول الأمر، حتى لا يتهاونوا فيها بحال .
أما بعد استقرار الأمر، فالواجب أن تراق الخمر، ولا تكسر أوانيها، محافظة على المال، وهو إحدى الضروريات الخمس. بل إذا أمكن الاستفادة من الخمر تخليلها، وقد ذكر هذا الوجه في منع التحليل الإمام القرطبي في تفسيره، فقد قال: وقد يحتمل أن يكون المنع من تخليلها كان في بدء الإسلام، عند نزول تحريمها، لئلا يستدام حبسها، لقرب العهد بشربها إرادة لقطع العادة في ذلك، وإذا كان كذلك، لم يكن في النهي عن تخليلها حينئذ، والأمر بإراقتها، ما يمنع من أكلها إذا خللت .
أقول: إن الذي ذكره القرطبي رحمه الله احتمالا في تفسير المنع من تخليل الخمر هو الذي نرجحه، بل نجزم به إن شاء الله، وهو الذي يتمشى مع المنهج الإسلامي في التدرج في التربية والتشريع.
وأما نهى عن أكل خل الخمر حتى يبدأ الله بفسادها، أن تتخلل من نفسها، فحمله بعضهم على الورع، والذي تبين لنا: أنه نوع من التربية للأمة، والسياسة التعزيرية التي كان يتبعها مع الرعية، مثل إراقة اللبن المغشوش، ومثل معاقبة (رويشد) الثقفي، الذي وجد عمر في بيته خمرا، فأمر ببيته فأحرقه ، وهذه مبالغة في الردع من عمر، حتى يتجنب الناس المنكرات. وليست لازمة وكثير من الفقهاء خالفوا عمر في ذلك، فرأوا التصدق باللبن المغشوش دون إراقته، فيضيع على المسلمين.
ونحن مع السياسة العمرية في ردع أصحاب المنكر، وفي وقاية الأمة من التلبس بالخمر شربا أو صنعا أو اتجارا، واقترابا منها بحال، وقد لعن فيها عشرة من كل من ساهموا فيها، ولكن قد تدخل الخمر في ملك المسلم جبرا عنه، كما في تحول العصير خمرا، أو عن طريق الميراث، أو وغير ذلك، فهنا لا ينبغي أن نضيع مال المسلم، إذا وجدنا سبيلا لذلك .
وكذلك قد نمتلك خلا، ربما كان أصله خمرا، فالورع اجتنابه، ولكن لا نقول بحرمته كما هو الراجح عندنا، وكما دلت على ذلك الدلائل. ولله الحمد .
على أن حديث أنس هذا، إنما ورد في قضية حال لا عموم لها، فإعمال العمومات أولى .
وما قالوه من تنجس الملح وغيره إذا لاقى الخمر النجسة: لا يسلم، لأنه العنصر المؤثر والمغير، وقد تغير وصف الكل، فتغير حكمه .
على أن هذا التعليل يسقط إذا بنينا ما ذهب إليه بعض السلف من أن نجاسة الخمر إنما هي نجاسة معنوية لا حسية، كنجاسة المشركين ، وهو مذهب قوي،نقله القرطبي في تفسيره عن ربيعة شيخ مالك، والليث بن سعد، والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين، فرأوا أنها ظاهرة، وأنما المحرم إنما هو شربها، ولا يلزم من كون الشيء محرما أن يكون نجسا، فكم من محرم في الشرع ليس بنجس. ولا يوجد دليل صحيح صريح على نجاسة الخمر. قال الإمام الشوكاني في (السيل الجرار) ليس في نجاسة المسكر دليل يصلح للتمسك به. وعضد ذلك بالأدلة .