خلق الله الإنسان وهو يعلم ضعفه، وأمره وكلفه واختبره وابتلاه وهو اللطيف به؛ لذلك شرع الله للمؤمن في الدنيا مكفرات يمحو بها ذنوبه، ويتحلل بها من آثامه، ويطهر بها صحيفته. فإذا أذنب المؤمن وأتبع سيئته بواحدة من هذه المكفرات فقد برئ من ذنوبه الصغار، أما الذنوب الكبار فلا بد لها من التوبة بشروطها.

وكل هذا في الدنيا، فإذا أذنب العبد، وزحف إلى الآخرة بذنوبه يحملها فوق ظهره، وبآثامه يجرها خلفه ، ولقي الله بها فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، وذلك قول الله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً).

وذلك قول رسوله فيما رواه البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا ، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه، إن شاء غفر له، وإن شاء عذَّبه).

فدل هذا الحديث على أن من تطهر في الدنيا فقد برئ من إثمه، وأن من سوف، وانهمك في غيه، ولقي الله بذنبه فهو إلى الله إما أن يعذبه، وإما أن يغفر له. وذلك أن الحساب يوم القيامة بميزان دقيق فمن رجحت حسناته على سيئاته فقد فاز، وهو في الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته- والعياذ بالله- فهو تحت المشيئة ، وهو الذي عرض نفسه لذلك بإعراضه عن مكفرات الذنوب التي بثها الله على رؤوس الناس ليل نهار. يقول الله تعالى (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).

فمن أبى الله أن يغفر له- نسأل الله أن لا نكون منه- فلا بد حتى يدخل الجنة أن يتطهر ويتطيب؛ لأن الله قضى أن لا يدخل الجنة إلا الطيبون، وأصحاب المعاصي ليسوا طيبين إلا أن يتوبوا ، أو يغفر لهم، وهؤلاء لا تابوا، ولا غفر لهم فلا بد من أن يطيبوا، فبأي شيء يطيبون؟

كان التطييب بالأمس بالتعرض لهذه المكفرات، أما الآن فلات حين مناص، ولا مكان لهذه المكفرات، ولا مطيب إلا النار- أعاذنا الله منها- فيدخله الله النار حتى تطيب جسمه كما يدخل الناس الطوب النيئ النار حتى يحمر ويصير صالحا، والمذنبون في هذا الموقف كاللبنات، وكل لبنة تمكث في النار على قدر ما تطيب، ثم يخرج الله من طاب منهم فيدخله الجنة بعفوه ومنه وكرمه، وذلك قول الرسول فيما رواه أحمد وغيره من حديث أبي سعيد (سيخرج قوم من النار قد احترقوا وكانوا مثل الحمم، فلا يزال أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتون كما تنبت الغثاء في حميل السيل).

ولذلك جاء أن الحسن البصري وجدوه يوما في قعر بيته باكيا آسفا، فسئل : أتبكي وأنت الحسن، فقال: وما الحسن، كيف بي لو أتيت ربي بسيئة واحدة فقال لي : اذهب يا حسن ،لا غفرت لك.

يقول العلامة ابن القيم في كتابه زاد المعاد:-

الله – سبحانه وتعالى – جعل للسعادة والشقاوة عنواناً يعرفان به ، فالسعيد الطيب لا يليق به إلا طيب ، ولا يأتي إلا طيباً ولا يصدر منه إلا طيب ، ولا يلابس إلا طيباً ، والشقي الخبيث لا يليق به إلا الخبيث ، ولا يأتي إلا خبيثاً ، ولا يصدر منه إلا الخبيث ، فالخبيث يتفجر من قلبه الخبث على لسانه وجوارحه ، والطيب يتفجر من قلبه الطيب على لسانه وجوارحه . وقد يكون في الشخص مادتان ، فأيهما غلب عليه كان من أهلها ، فإن أراد الله به خيراً طهره من المادة الخبيثة قبل الموافاة ، فيوافيه يوم القيامة مطهراً ، فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار ، فيطهره منها بما يوفقه له من التوبة النصوح ، والحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة ، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة .

ويمسك عن الآخر مواد التطهير ، فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة ، ومادة طيبة ، وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره أحد في داره بخبائثه ، فيدخله النار طهرة له وتصفية وسبكاً ، فإذا خلصت سبيكة إيمانه من الخبث ، صلح حينئذ لجواره ، ومساكنة الطيبين من عباده.

وإقامة هذا النوع من الناس في النار على حسب سرعة زوال تلك الخبائث منهم وبطئها ، فأسرعهم زوالاً وتطهيراً أسرعهم خروجاً، وأبطؤهم أبطؤهم خروجاً ، جزاء وفاقاً ، وما ربك بظلام للعبيد .
ولما كان المشرك خبيث العنصر ، خبيث الذات ، لم تطهر النار خبثه ، بل لو خرج منها لعاد خبيثاً كما كان ، كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه ، فلذلك حرم الله تعالى على المشرك الجنة .
ولما كان المؤمن الطيب المطيب مبرءاً من الخبائث ، كانت النار حراماً عليه ، إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره بها ، فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب ، وشهدت فطر عباده وعقولهم بأنه أحكم الحاكمين ، ورب العالمين ، لا إله إلا هو .