جاء في كتاب ( التوبة) للشيخ يوسف القرضاوي :

من تأمل ما جاء في القرآن من آيات، وفي السنة من أحاديث، وعن الصحابة من آثار، تبين له أن هذه النصوص تدل بوضوح على أن من تاب إلى الله توبة نصوحًا، واجتمعت شروط التوبة في حقه، فإنه يقطع بقبول الله توبته، كما يقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلامًا صحيحًا، وهذا قول الجمهور، وكلام ابن عبد البر يدل على أنه إجماع.
ومن الناس من قال: لا يقطع بقبول التوبة، بل يرجى، وصاحبها تحت المشيئة وإن تاب، واستدلوا بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)، فجعل الذنوب كلها تحت مشيئته، وربما استدل بالآيات التي استخدم القرآن فيها أداة الترجي،مثل (عسى) و (لعل)، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم) (التحريم: 8)، وبقوله: (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) (القصص: 67)، وقوله: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31)، وقوله: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (التوبة: 102).
والظاهر أن هذا في حق التائب، لأن الاعتراف يقتضي الندم، وفي حديث عَائِشَةَ عن النبي قال: (إن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب، تاب الله، عليه) (رَواهُ البُخاريُّ (4141) و (4750) ومسلم (2770) وأحمد 196/6).
والصحيح قول الأكثرين، وأن هذه الآيات لا تدل على عدم القطع، فإن الكريم إذا أطمع، لم يقطع من رجائه المطمع، ومن هنا قال ابن عَبَّاس: إن ” عسى ” من الله واجبة، نقله عنه علي بن أبي طلحة (رَواهُ ابن جرير (1655) وعلي بن أبي طلحة روايته عن ابن عَبَّاس مرسلة، فإنه لم يره)، وقد ورد جزاء الإيمان والعمل الصالح بلفظ: “عسى” أيضًا، ولم يدل ذلك على أنه غير مقطوع به، كما في قوله: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة: 18).
وأما قوله: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)، فإن التائب ممن شاء أن يغفر له، كما أخبر بذلك في مواضع كثيرة من كتابه.
التوبة مقبولة قطعًا من ناحية وعد الله:
ولا ريب أن التوبة إذا استوفت أركانها ومقوماتها، واستجمعت شرائطها: مقبولة عند الله تعالى لا محالة، حسب وعده، وحسب سنته سبحانه في خلقه.
أما وعده فقد وصف نفسه بقوله تعالى: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) (غافر: 3). قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (الشورى: 25).
وقال عز وجل: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة: 104).
فبين أن من أسمائه الحسنى (التواب) وهو الذي يوفق العاصي للتوبة، ويقبلها منه، فكل توبة من العبد محفوفة بتوبتين من الله تعالى: توبة قبلها للهداية والتوفيق، وتوبة بعدها للقبول.
وقال رجل لرابعة: إني أكثرت من الذنوب والمعاصي، فلو تبت هل يتوب الله علي؟ فقالت: لا، بل لو تاب عليك لتبت!.
تشير رضي الله عنها إلى قوله تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (التوبة: 118)، أي وفقهم للتوبة ليتوبوا، فتوبتهم ثمرة لتوبته عز وجل.
ولذلك قال بعض الصالحين: أنا لا أحمل هم المغفرة، بل أحمل هم التوبة !.
وذلك لأن المغفرة نتيجة حتمية للتوبة، كما قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53) وإنما يغفر الله الذنوب جميعًا بالتوبة، حتى الشرك والكفر بالله تعالى وبرسله، يغفره بالتوبة منه، كما قال تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (الأنفال: 38).
حتى كفر الردة – وهو شر أنواع الكفر – إن تاب منه، ورجع عنه قبلت توبته، ومحيت خطيئته، كما قال تعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 86 – 89)، فلم يغلق في وجوههم باب التوبة، برغم عظم جريمتهم التي استوجبت لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولكنهم إذا تابوا تاب الله عليهم، فإن الله غفور رحيم، فهذا مقتضى أسمائه وصفاته، فمن يغفر إذا هو لم يغفر؟ ومن يرحم إذا هو سبحانه لم يرحم؟!.
وآيات القرآن في هذا الباب غزيرة وفيرة، كلها تحمل وعد الله تعالى بالمغفرة. وقبول التوبة، ووعده تعالى حق، وقوله صدق: (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (الكهف: 98)، (وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ) (الروم: 6).
يؤكد ذلك ما جاء في الأحاديث النبوية الشريفة، مثل:
ما رَواهُ مسلم في صحيحه عن أبي موسى أن النبي قال: (إن الله يبسط يده بالليل حتى يتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار، حتى يتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها).
وبسط اليد كناية عن طلب التوبة، والطلب أبلغ وأخص من القبول، إذ الطالب أبلغ من القابل، فرب قابل ليس بطالب، ولا طالب إلا وهو قابل.
وما رواه ابنُ مَاجه عن أبي هُريرةَ أنه قال: (لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب الله عليكم) (حسنه في صحيح الجامع الصغير برقم (6235).
فهذا ما يتعلق بقبول التوبة من ناحية وعده عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله.
التوبة مقبولة من ناحية سنن الله:
وأما قبول التوبة من ناحية سنته سبحانه في الخلق، وما أقام عليه هذا الكون من شبكة الأسباب والمسببات، فإن من عرف هذه السنن الإلهية واطرادها وثباتها: يعرف أن نور التوبة إذا سطع يمحو ظلمة الذنوب وآثارها في القلوب، كما يمحو بزوغ الفجر، ونور الشمس ظلام الليل، وكما يمحو الماء والصابون الوسخ والدرن، من الثوب والبدن، وكما يمحو الصقل صدأ الحديد.
ولهذا قالوا: إن نار الندم تحرق غبرة الذنب، ونور الحسنة يزيل عن وجه القلب ظلمة السيئة، وأنه لا طاقة لظلام السيئات مع نور الحسنات، ومن توهم أن التوبة تصح بشرائطها ولا تقبل – فهو كمن يتوهم أن الشمس تطلع، والظلام لا يقلع، وأن الثوب يغسل، والوسخ لا يزول.
نعم، إذا تغلغل الوسخ لطول تراكمه في تجاويف الثوب، فلا يقوى الصابون على قلعه من أصله، وكذلك إذا توغل الصدأ في الحديد، فقد لا يصقله الجلاء، وهذا مثل القلب إذا تراكمت عليه الذنوب حتى صارت رينا وطبعًا على القلب، فمثل هذا القلب المطبوع عليه، لا يتوب، ولا يرجع إلى الرب، كما قال تعالى في شأن قوم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (النحل: 108 – 109).
ولكن هذا غير الذي نذكره هنا، وهو من تاب توبة استجمعت أركانها وشرائطها.
كما أن من حق التائب – بل من واجبه – أن يشك في قبول توبته، إذا شك في استكمال أركانها، أو في استيفاء شروطها، وما أدقها وما أصعبها وما أشق تحصيلها بكمالها على وجهها، ولهذا روى عن الربيع بن خيثم أنه كان يقول: لا تقل: أستغفر الله، وأتوب إليه، فيكون ذنبًا وكذبًا إن لم تفعل، بل قل: اللَّهُمَّ اغفر لي ذنبي وتب عليّ!.
وكلما ارتقى الإنسان في سلم الصالحات: (اتهم) توبته، وارتاب في صحتها، كما قال ابن القيم رحمه الله:
” وأما اتهام التوبة: فلأنها حق عليه، لا يتيقن أنه أدى هذا الحق على الوجه المطلوب منه، الذي ينبغي له أن يؤديه عليه، فيخاف أنه ما وفاها حقها، وأنها لم تقبل منه، وأنه لم يبذل جهده في صحتها، وأنها توبة علة وهو لا يشعر بها، كتوبة أرباب الحوائج والإفلاس، والمحافظين على حاجاتهم ومنازلهم بين الناس، أو أنه تاب محافظة على حاله، فتاب للحال، لا خوفًا من ذي الجلال، أو أنه تاب طلبًا للراحة من الكد في تحصيل الذنب، أو اتقاء ما يخافه على عرضه وماله ومنصبه، أو لضعف داعي المعصية في قلبه، وخمود نار شهوته، أو لمنافاة المعصية لما يطلبه من العلم والرزق، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في كون التوبة خوفًا من الله، وتعظيمًا له ولحرماته، وإجلالاً له، وخشية من سقوط المنزلة عنده، وعن البعد والطرد عنه،والحجاب عن رؤية وجهه في الدنيا والآخرة، فهذه التوبة لون، وتوبة أصحاب العلل لون آخر ” (مدارج السالكين: 185/1).