يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :
السياحة في أصلها مشروعة إذا كان هدفها الأساسي مشروعًا، فمن يسيح للتعرف على بلاد معينة أو على الخلق أو يسيح للدعوة لتبليغ الرسالة الإسلامية، وبعض الناس يسيح للترويح عن النفس، وخصوصًا إذا عمل فترة طويلة، ويريد أن يرفِّه عن نفسه، والأصل مشروع ما دام لم يكن هناك أمر محرم، ولكن هناك ضوابط، فكثيرًا ما تكون هناك فتن ظاهرة وباطنة يتعرض لها الإنسان، خاصة إذا كان شابًّا ويتعرض للفتن، وهناك بعض السماسرة – سماسرة الفساد – ينتظرون هؤلاء الشباب ليأخذوهم لمواقع الانحلال؛ ليسلبوا منهم أموالهم ويفسدوا عليهم دينهم.
ومن يسافر إلى بلاد الغرب فكثير منها لا يوجد فيها ما يعين على إقامة الصلاة والواجبات الدينية؛ ولهذا ننصح أن تكون السياحة إلى البلاد الإسلامية، وفي كل البلاد الإسلامية مناطق سياحية، هناك المناطق الباردة في الصيف، وهناك المناطق الدافئة في الشتاء، والخضراء والرائعة الخضرة، وهناك المناطق الحافلة بآثار الأقدمين هذه كلها توجد في بلاد المسلمين، ومن المعروف أن السياحة تعتبر من الموارد المالية المهمة في عصرنا، فلأَن يفيد المسلم بلدًا مسلمًا من سياحته خير من أن يعين بلدًا غير مسلم، وربما كان هذا البلد يعادي المسلمين أو يظاهر عليهم عدوهم، فأولى بالمسلم أن ينفع أخاه المسلم، وفي الحديث الشريف: “لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي”، فلا ينبغي أن يستفيد من نفقات سياحة المسلم إلا المؤمنون والأتقياء بقدر ما ينفقون.
ويقول فضيلة الشيخ عطية صقر ـ رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر ـ رحمه الله تعالى:
السِّياحة وهي الانتقال من مكان إلى مكان آخر لمشاهَدة ما فيه من آثار أو للتنَزُّه والتمتُّع بما فيه من مناظرَ أو مظاهرَ ـ أمرٌ لا يمنعُه الدين في حدِّ ذاته، بل يأمُر به إذا كان الغرض شريفًا، فقد أمرت الآياتُ الكثيرة بالسير في الأرض للاعتبار بما حدَث للسابقين (أفَلَمْ يَسيروا في الأرْضِ فيَنْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبةُ الذين مِنْ قَبلهم دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ ولِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) (سورة محمد : 10) (قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فانْظروا كَيْفَ كَانَ عاقِبةُ المُجرِمينَ) (سورة النمل :9)
والحجّ نفسُه سياحة دينيّة وعبادة مفروضة، وشدّ الرِّحال إلى المسجد الحرام بمكة، وإلى المسجد النبوي بالمدينة، وإلى المسجد الأقصى بالشام مرغوب فيه كما جاء في الحديث الصحيح، وذلك للعِبادة وزيادة الأجر، والأمر بزيارة الإخوان والرّحلة لطلب العلم وللتجارة كلُّ ذلك سياحة مشروعة، ونُسِبَ إلى الإمام الشافعي ـ ورحلتُه في طلب العلم معروفةٌ ـ دعوتُه إلى السفر؛ لأنّ فيه خمس فوائد هي:
تَفَرُّج واكْتِسابُ مَعيشةٍ
وعِلْمٌ وآدابٌ وصُحْبَة ماجِدِ .
ورحلات الصّحابة والتابعين والسلف الصّالح للجهاد والتّجارة والأغراض العلميّة معروفة، وكذلك أخبار الرَّحّالة المسلمين كابن بطوطة وابن جُبير لها كتب مُدوَّن فيها علم كثير، ولا شكّ أن البلاد التي يرِدُ إليها السائحون تكسِب كثيرًا من الناحية الماديّة والناحية الأدبية، وتحرِص كثيرًا على أن يَفِدَ إليها السائحون، وإذا كان الواقع يشهد بذلك فقد أشار إليه قوله تعالى على لسان سيّدنا إبراهيم (ربَّنا إني أسكنتُ من ذُرِّيتي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرع عند بَيْتِكَ المُحرَّم ربَّنا لِيُقِيمُوا الصّلاةَ فاجْعَلْ أَفْئِدةً من لناس تَهوِي إليهم وارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكرونَ) (سورة إبراهيم : 37).
فأمرَه الله بأنْ يُؤذِّنَ في النّاس بالحج، فأذَّن وأتَوه من كلِّ فجٍّ عميق، وعُمِّر المكان وازدهَرَ وسيظلّ كذلك إلى يوم الدّين.
وهذا الكسب يكون حلالًا إذا لم يكن فيه ضَرر سواء أكان هذا الضّرر من السائحين أو من الجِهة التي يزورونها، وسواء أكان الضّرر مادِيًّا أم أدبيًّا، فقد يكون بعضُهم جواسيسَ أو أصحاب فكرٍ أو سلوك شاذٍّ يريدون نشرَه، وهنا يجب منع الضّرر، فمن القواعد التشريعيّة: دَرء المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح. ومن تطبيقات هذه القاعدة قديمًا، إعلان أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وكان أميرًا للحجِّ في السَّنة التاسعة من الهجرة ألّا يحجَّ بعد العام مُشركٌ، وقد كان العرب يحرِصون على الحجّ مِن أجل التجارة والمكاسب الماديّة وكان أهل مكة يَستفيدون من ذلك كثيرًا، ويقومون بتسهيلات كثيرة للحجاج، وأنشؤوا خدمات ثابتة من أجل ذلك كالسِّقاية والرِّفادة كانوا يتنافسون فيها، ويتوارثونها فحرّم الإسلام على أهل مكّة تمكين المُشركين من الحجّ على الرغم من ضَياع الكسْب الماديّ أو الرّواج التجاري أو الانتعاش الاقتصادي الذي كانوا يُفيدون منه، وذكر أن الله سيعوضُهم خيرًا ممّا فاتَهم بسبب هذا الخطر، وجاء في ذلك قول الله تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إنَّما المُشرِكونَ نَجْسٌ فلا يَقرَبُوا المَسجِدَ الحَرَام بعد عامِهم هذا وإنْ خِفْتُم عَيلة فسوف يُغنيكم الله من فَضله إن شاءَ إن اللهَ عليمٌ حَكيمٌ) (سورة التوبة : 28).
قال المُفسرون: لما منع المسلمون الكافرين من المَوسِم وكانوا يجلِبون الأطعمة والتِّجارات قذف الشيطان في قلوبِهم الخوفَ من الفقر وقالوا: مِن أين نَعيش؟ فوعدَهم اللهُ أن يُغنيَهم مِن فضلِه. قال عكرمة: أغْناهم الله بإدرار المَطر والنَّبات وخِصْب الأرضِ، فأخصَبت بَتالَة وجُرَش ـ بلدان باليمن فيهما خِصْب ـ وحملوا إلى مّكة الطّعامَ وكثُر الخيرُ وأسلمت العَرب، أهل نجد وصنعاء، فكثر حجُّهم وازدادت تجارتهم، وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمَمِ.