-قرأ أبو طلحة الأنصاري سورة ” براءة ” حتى بلغ هذه الآية: (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (التوبة: 41)… فقال: خفافًا وثقالاً، شبانًا وكهولاً، ما سمع الله عذر أحد، وقال لبنيه: أي بني، جهزوني.. جهزوني… جهزوني… (يعني للجهاد) فقال بنوه: يرحمك الله، قد غزوت مع النبي حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات. فنحن نغزو عنك !‍ قال: لا… جهزوني… فجهزوه بجهاز الحرب، فغزا في البحر، فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها رَضيَ الله عنه.

-وخرج سعيد بن المسيب إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل ! فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع.

-ورأي بعضهم في غزوات الشام رجلاً قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر فقال له: يا عم؛ إن الله قد عذرك: فقال: يا ابن أخي قد أمرنا بالنفير خفافًا وثقالاً ” (ذكر هذه الوقائع الإمام القرطبي في تفسير: خفافًا وثقالاً).

-ولقد روى في بعض الغزوات أن الابن وأباه كانا يتسابقان إلى الجهاد، فيقرعان بينهما فتخرج القرعة للابن، فيقول الأب: آثرني يا بني، أنا أبوك ! فيقول الابن: إنها الجنة يا أبت ! ولو كان شيء غيرها لآثرتك والله.

-وعمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب، يغزون مع الرسول . فلما كان يوم أحد، طلب إلى بنيه أن يعدوا له عدة الجهاد، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونحن نكفيك ! وقد وضع الله عنك الجهاد؟ فأتى عمرو رسول الله فقال: إن بني هؤلاء يمنعونني أن أجاهد معك، ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة !! فقال له رسول الله : “أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد”. وقال لبنيه: “وما عليكم أن تدعوه، لعل الله عز وجل يرزقه الشهادة”. فخرج مع رسول الله – فقُتل يوم أحد شهيدًا – وفيه قال النبي للأنصار: “إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح”.

-وهذا نموذج آخر من نماذج التضحية: نموذج التضحية بالراحة والثروة، والاستمتاع بالحياة الرضية الناعمة، وارتضاء الحرمان والمشقة والبلاء والأذى في سبيل الله.
فتىً كمصعب بن عمير، نشأ في الحلية، ورُبي في الرفاهية والنعمة، بين أبوين يحبانه أشد الحب، ويحنوان عليه أعظم الحنو، يغذوانه بأطيب الطعام، ويكسوانه بأحسن اللباس، وينشران عليه أجنحة العطف والإيثار والرعاية والتدليل، فتى منعم مدلل كهذا، ما الذي يجعله يدع هذه الحياة اللذيذة الهادئة الهانئة، إلى حياة خشونة وبأساء، وزلزلة وجهاد، وغربة وهجرة؟ ما الذي جعله يرضى بمفارقة الأهل والوطن، ويرغب عن الثورة والجاه ويفر بدينه مهاجرًا إلى الحبشة ثم إلى المدينة، حتى يموت في دار الهجرة شهيدًا في غزوة أحد، فلا يجد المسلمون له ثوباُ يكفي لغطاء جسده، كل الذي وجدوه ثوب قصير، إذا غُطي به رأسه بانت رجلاه، وإذا غطيت به رجلاه، بانت رأسه؟؟ لا شيء إلا الإيمان.

يروى ” ابن سعد ” عن محمد بن شرحبيل العبدري، أحد أقرباء مصعب هذه الكلمات في وصفه. يقول: كان مصعب بن عمير فتى مكة شبابًا وجمالاً وسبيبًا، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه مليئة كثيرة المال، تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقه، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال، فكان رسول الله يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم فدخل عليه فأسلم وصدق به، وخرج فكتم إسلامه خوفًا من أمه وقومه فأخذوه فحبسوه، فلم يزل محبوسًا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى، ثم رجع مع المسلمين حين رجعوا، فرجع متغير الحال قد حرج – يعني غلظ.
ويقول خباب بن الأرت: هاجرنا مع رسول الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره شيئًا منهم مصعب بن عمير، قُتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفيه يُكفن فيه إلا نمرة، قال: فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال لنا رسول الله : “اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر”.
ولقد وقف الرسول على هذا الفتى، وهو مقتول مسجى في برده، فقال والدموع تزدحم في عينيه: (لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أرق حلة، ولا أحسن لمة منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة).

وعن عبيد بن عمير أن النبي وقف على مصعب وهو منجعف على وجهه، فقرأ هذه الآية: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) (الأحزاب: 23)…

وهذا نموذج آخر من نماذج التضحية: هي التضحية بالمال، يرويه لنا زيد بن أسلم رَضيَ الله عنه قال: لما نزل: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) (البقرة: 245؛ الحديد: 11)… قال أبو الدحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله ! وإن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض؟ قال: (نعم يريد أن يُدخلكم الجنة به) قال: فإني قد أقرضت ربي قرضًا يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة؟ قال: (نعم) قال: ناولني يدك، فناوله رسول الله يده. فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضًا لله تعالى. قال رسول الله : (اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك). قال: فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال: (إذن يجزيك الله به الجنة).

فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول:
هداك ربي سبل الرشاد
إلى سبيل الخير والسداد
بيني من الحائط بالوداد
فقط مضى قرضًا إلى التناد
أقرضته الله على اعتمادي
بالطوع لا منِّ ولا ارتداد
إلا رجاء الضعف في المعاد
فارتحلي بالنفس والأولاد
والبر لا شك فخير زاد
قدمه المرء إلى المعاد
فقالت أم الدحداح: ربح بيعك ! بارك الله لك فيما اشتريت ! وأجابته أم الدحداح وأنشأت تقول:
بشرك الله بخير وفرح
مثلك أدى ما لديه ونصح
قد متع الله عيالي ومنح
بالعجوة السوداء والزهو البلح
والعبد يسعى وله ما قد كدح
طول الليالي وعليه ما اجترح
ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخُرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال النبي : (كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح) أي في الجنة.

إن تاريخ الإسلام وتاريخ الأنبياء وأتباعهم في كل عصر. حافل بالصور الحية، والنماذج الرائعة للبذل والتضحية في سبيل الحق، وهي صور ونماذج لم يصنعها غير الإيمان، ولن يصنع أمثالها – إذا أردنا لها أمثالاً – إلا الإيمان!.