كثير من العلماء المعاصرين يرى أن المتقدمين أسرفوا في النسخ ، بل اتهم بعضهم بسهوه وغفلته ، وعند تحقيق المسألة ،فإن العلماء المتقدمين – رحمهم الله – كانوا يرون النسخ غير ما استقر عليه علماء الأصول، فقد يدخلون في النسخ تخصيص العام، وتقييد المطلق ، وتفسير المبهم، وتفصيل المجمل، ونحوها.
ومن هنا ، فإن اصطلاح النسخ عند المتقدمين من العلماء غير ما استقر عليه أهل الأصول ، من كونه إبطال حكم سابق بحكم لاحق ، بدليل شرعي، متراخ عنه ، أي أن الدليل الذي لغى الحكم أتى بعد الدليل الذي جاء بالحكم المنسوخ.
يقول فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي:
الأصل في كلام الله تعالى: أنه محكم غير منسوخ، وأنه باقٍ غير زائل.
وقد أسرف بعض العلماء ـ غفر الله لهم ـ في ادعاء النسخ في كتاب الله بغير برهان أتاهم، حتى زعم منهم من زعم: أن آية واحدة ـ سموها آية السيف! ـ نسخت أكثر من مائة آية!
وما آية السيف هذه المزعومة؟! إنهم اختلفوا في تعيينها! حتى قال من قال: إن قوله تعالى في بيان منهج الدعوة إلى الله: (ادعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وجادلهم بالتي هي أحسنُ) (النحل: 124) نسختها آية السيف.
وقوله تعالى : (فاصبرْ صبرًا جميلاً) (المعارج: 5) (واصبرْ وما صبرك إلا باللهِ) (النحل: 127)، (لا إكراهَ في الدينِ قد تبينَ الرشدُ من الغيِّ) (البقرة: 256) كلها نسختْها آية السيف!
النسخ عند السلف:
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام: أن السلف ـ رضي الله عنهم ـ من الصحابة والتابعين والأتباع وتلاميذهم كانوا يطلقون كلمة “النسخ” على ما هو أعم مما قيدها به الاصطلاح بعدهم، ولكن بعض العلماء ـ بل الكثير منهم ـ لم يتنبهوا لذلك، فحملوا كلام المتقدمين على اصطلاح المتأخرين، فوقعوا في الخطأ، وهذا له أمثلة كثيرة تطالعنا في كتب التفسير، وعلوم القرآن، وفي كتب الفقه.
قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات: “
الذي يظهر من كلام المتقدمين: أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد كانوا يطلقون على تقييد المطلق نسخًا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخًا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل متأخر نسخًا؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد “.
وقال الإمام المحقق ابن القيم:
“ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ، رفع الحكم بجملته تارة ـ وهو اصطلاح المتأخرين ـ ورفع دلالة العام والمطلق وغيرها تارة، إما بتخصيص عام أو تقييد مطلق وحمله على المقيد، وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخًا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو: بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يُحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر “.
وقد أحسن الإمام ابن كثير حين عقب على القول بالنسخ في هذه الآية فقال: “وفي تسمية هذا نسخًا نظر؛ لأنه قد كان شيئًا واجبًا في الأصل، ثم إنه فصَّل بيانه، وبيَّن مقدار المُخرج وكميته، قالوا: وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة.
والله أعلم