هذه الآية أبطل الله بها حكماً من أحكام الجاهلية التي كانت تمتهن المرأة فيها فأتى الإسلام وأرسى العدل في البلاد بين العباد.

ويوضح هذا فضيلة الشيخ الشعراوي علامة مصر ـ رحمه الله ـ قائلاً :
يقول الحق سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا ولا تَعضُلُوهنَّ لتَذهَبوا ببعضِ ما آتيتموهنَّ إلا أن يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ وعاشرُوهنَّ بالمعروفِ فإن كَرِهتموهنَّ فعسى أن تَكرَهوا شيئًا ويَجعلَ اللهُ فيه خيرًا كثيرًا) (النساء: 19).
ساعة ينادي الحق سبحانه وتعالى عباده الذين آمنوا به يقول سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا) فمعناها:

-يا من آمَنتم بي بمَحض اختياركم.

-وآمَنتم بي إلهًا له كلُّ صفات العلم والقدرة والحكمة والقيُّومية.

-ما دمتم قد آمنتم بهذا الإله اسمَعوا من الإلهِ الأحكامَ التي يَطلبها منكم.

إذًا فهو لم ينادِ أيَّ مؤمن ، وإنما نادَى مَن آمَن باختياره ، وبترجيح عقله، فالحق سبحانه وتعالى يقول: (لا إكراهَ في الدينِ قد تَبيَّنَ الرُّشدُ من الغَيِّ فمن يكفُرْ بالطاغوتِ ويُؤمِنْ بالله فقد استَمسَكَ بالعُروةِ الوُثقَى لا انفصامَ لها واللهُ سميعٌ عليمٌ) (البقرة: 256).

-يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعالج قضية تتعلق بالنساء باستضعافهنَّ، لقد جاء الإسلام والنساء في الجاهلية في غَبْن وظلم عليهنَّ، فقال الحق سبحانه: (لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا) وكلمة : “ورث” تدل على أن واحدًا قد تُوُفِّيَ وله وارث، وهناك شيء قد ترَكه الميت ، ولا يصح أن يَرِثَه أحد بعده ؛ لأنه عندما يقول: (لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا) فقد مات مورِّث ويخاطب وارثًا.

إذًا فالكلام في الموروث، لكن الموروث مرة يكون حلالًا ، ولذلك شرَع الله تقسيمه، وآخر يكون حرامًا فلا يصح ، ويجب تركه، والكلام هنا في متروك لا يصح أن يكون موروثًا، فقال سبحانه: (لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا) فهل المقصود ألّا يَرثَ الوارث من مورِّثه إمَاءً تَرَكَهنَّ؟

لا، إن الوارث يَرث من مورِّثه الإمَاءَ اللاتي تَرَكَهنَّ، ولكن عندما تنصرف كلمة “النساء” تكون لأشرف مواقعها، أي : للحرائر، لأن الإمَاء تُعتبَر الواحدة منهنَّ ملكَ يمين (لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا) وهل يوجد ميراث للنساء برضًا؟ وكيف تورث المرأة؟

ننبّه هنا إلى قوله سبحانه وتعالى: (كَرْهًا) وكان الواقع في الجاهلية أن الرجل إذا مات وعنده امرأة جاء وليّه ، ويُلقي ثوبه على امرأته فتصير ملكًا له، وإن لم تقبَل فإنه يَرثها كَرْهًا، أو إن لم يكن له هوًى فيها فهو يحبسها عنده حتى تموت ويَرِثَها، أو يأتيَ واحد ، ويزوجَها له ، ويأخذ مهرها لنفسه، كأنه يتصرف فيها تصرف المالك، لذلك جاء القول الفصل: (لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا) والعَضْلُ في الأصل هو المنع، ويقال: عَضَلَت المرأة بولدها.

-(أخرج البخاريّ [4579] وأبو داود [6089] والنسائيّ في الكبرى [11094] عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما “يا أيها الذين آمنوا لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا” قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، وإن شاء بعضهم تزوَّجها ، وإن شاءوا زوَّجوها ، وإن شاءوا لم يزوِّجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك.

-وروى أبو داود [2090] عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: “لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا ولا تَعضُلُوهنَّ لتَذهَبوا ببعضِ ما آتيتموهنَّ إلا أن يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ” وذلك أن الرجل كان يرث امرأةَ ذي قرابته فيَعضُلُها حتى تموت ، أو تَرُدَّ إليه صَدَاقَها، فأحكَمَ الله تعالى عن ذلك. أي: نهَى عن ذلك.

-وروَى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : “يا أيها الذين آمنوا لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا” قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقَى عليها حميمة ثوبه فمنَعَها من الناس، فإن كانت جميلة تزوَّجها، وإن كانت دميمة حبَسها حتى تموتَ فيَرثَها.

وقال مجاهد: كان الرجل إذا تُوُفِّيَ كان ابنه أحقَّ بامرأته، يَنكِحها إن شاء إذا لم يكن ابنَها أو يُنكحها من شاء أخاه أو ابنَ أخيه.

وقال عكرمة: نزلت في كبيشة بنت معن بن عاص بن الأوس، تُوُفِّيَ عنها أبو قيس بن الأسلت فجنَح عليها ابنه فجاءت رسولَ الله ـ ـ فقالت: يا رسول الله، لا أنا وَرِثْتُ زوجي ولا أنا تُرِكْتُ فأَنكَحَ! فنزلت هذه الآية.

قال ابن كثير: فالآية تعُمّ ما كان يفعله أهل الجاهلية، وما ذكره مجاهد ، ومن وافَقَه ، وكل ما كان فيه نوع من ذلك.