الصلاة في البيت أو العمل منفردا، وعدم الذهاب للمسجد فيها مخالفة لهدي النبي ﷺ؛ فقد روى الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، قال: من سره أن يلقى اللَّه تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن؛ فإن اللَّه شرع لنبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.
وجاء في سنن الترمذي وغيره ما يخوف أشد التخويف من ترك الذهاب إلى المسجد، قال الترمذي:- وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ ﷺ أَنّهُمْ قَالُوا: مَنْ سَمِعَ النّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ. وهو حديث صحيح.
وَقالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هَذَا عَلَى التّغْلِيظِ وَالتّشْدِيدِ، وَلاَ رُخْصَةَ لأِحَدٍ فِي تَرْك الْجَماعَةِ إلاّ مِنْ عُذْرٍ.
ولكن إذا صلى المسلم جماعة في بيته أو مكان عمله فإنه يحصل على أجر الجماعة؛ إذ أجر الجماعة يحصل لكل جماعة في المسجد،أو غيره، لكن الذهاب إلى المسجد فيه أجر عظيم فوق ثواب الجماعة.
ومما يثبت على أداء الجماعة ، أن يصاحب المسلم صحبة صالحة تأخذ بيده إلى الخير ، وتذكره وتعينه ، ويستعصم بها من الشيطان ، ومن النفس الأمارة بالسوء ، والنزاعة إلى الدعة والراحة ، وأن يتضرع إلى الله خاصة في أوقات الإجابة كوقت السحر ، وكالساعة التي قبل المغرب من يوم الجمعة: أن يثبته الله على طاعته ، ومن المهم كذلك أن يطالع سير السلف الصالح ، يتنسم من عبيرهم، ويقتبس من ضيائهم ، والله معه يعينه ويسدده.
يقول الشيخ جعفر أحمد الطلحاوي – من علماء الأزهر-:
الحديث الوارد في فضل صلاة الجماعة يشمل الجماعة في المسجد وفي غيره؛ إذ النص : ( صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) ، فصلاة الجماعة في غير المسجد لها فضلها، إلا أن الجماعة إذا أديت في المسجد كان ذلك مدعاة لمزيد من الأجر من حيث التطهر في البيت والمشي إلى المسجد، فلا يرفع قدمه إلا رفع درجة ولا حط قدمه إلا حطت عنه خطيئة، والاعتكاف في المسجد وانتظار الصلاة ، ودعاء الملائكة بالمغفرة والرحمة لمن يكون في انتظار الصلاة ، كل هذا وغيره يزداد به أجر صلاة الجماعة في المسجد، فمن أدى الجماعة في غير المسجد فقد حرم نفسه وبخل عليها بهذه الأوجه لزيادة الأجر. انتهى.
ويقول الشيخ عطية صقر-رحمه الله تعالى- من كبار علماء الأزهر – مبينا حكم الجماعة:-
وردتْ عن النبي ـ ﷺ ـ عدة أحاديث صحيحة في صلاة الجماعة تَحُثُّ عليها، وتُبيِّن فضلها وتُحذِّر مِن تركها والتهاون فيها.
وللعلماء إزاء هذه الأحاديث آراء أُلَخِّصُها فيما يلي:
الرأي الأول: قال أحمد بن حنبل: إنها فرْض عَيْنٍ على كل قادر عليها، وذهب إلى ذلك عطاء والأوزاعي وأبو ثور، ومن أهل الحديث ابن خزيمة، وابن حبان، كما ذهب إليه الظاهرية الذين يَأخذون بظاهر النصوص.
ومع قول هؤلاء بفرضية الجماعة اختلفوا: هل الفرضية شرط في صحة الصلاة فتَبطُل بدونها، أو ليست شرطًا فتَصِح بدون جماعة مع الإثم؟ والمجال لا يَتسع لتفصيل ذلك. ومن أدلة المُوجِبين وجوبًا عَيْنِيًّا للجماعة في الصلاة ما يأتي:
1 ـ حديث مسلم والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: أَتَى النبيَّ ـ ﷺ ـ رجل أعمى، فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يَقودني إلي المسجد، فسأله أن يُرخِّص له لِيُصلِّيَ في بيته فرَخَّص له، فلما ولَّى الرجل دعاه فقال: “هل تَسمَع النداء بالصلاة”؟ قال: نعم. قال: “فأَجِبْ” . وجاء مثل هذا في رواية أحمد وابن حبان والطبراني، وفيها أن الأعمى هو عبد الله بن أم مكتوم.
ووجه الاستدلال في هذا الحديث أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يُرَخِّص في تركها للأعمى ـ وله عذره ـ فكيف بالصحيح الذي لا عذر له؟
2 ـ حديث مسلم وغيره عن أبي الشعثاء المحاربي قال: كُنّا قعودًا في المسجد فأذَّن المؤذن فقام رجل من المسجد يَمشي، فأتْبَعه أبو هريرة بصَرَه حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عَصَى أبا القاسم . ووجه الاستدلال أنَّ تارك الصلاة مع الجماعة عاصٍ، وهذا يدل على وجوب الجماعة.
3 ـ حديث مسلم وغيره عن أبي هريرة أن النبي ـ ﷺ ـ قال: “لقد هَمَمْتُ أنْ آمُرَ فِتْيَتِى فيَجمعوا لي حُزَمًا من الحطب، ثم آتِي قومًا يُصلُّون في بيوتهم ليست بهم علة فأُحَرِّقها عليهم”. فقيل ليزيد بن الأصمِّ: الجمعةَ عَنَى أو غيرها؟ قال: صُمَّتْ أذناي إن لم أكُن سمعت أبا هريرة يَأثره عن رسول الله ـ ﷺ ـ ولم يذكر جمعة ولا غيرها.
ووجه الاستدلال أنَّ هَمَّ النبي ـ ﷺ ـ بتحريق بيوت المتخلِّفين عن الجماعة يدل على معصيتهم وهذا يدل على وجوبها.
الرأي الثاني: قال مالك وأبو حنيفة وكثير من الشافعية: إن صلاة الجماعة سنة مؤكدة، ومما استدلوا به ما يأتي:
1 ـ حديث “إذا صلَّيْتُما في رحالكما ثم أتَيْتُما مسجدَ جماعةٍ فصَلِّيا معهم، فإنها لكما نافلة” رواه الخمسة عن يزيد بن الأسود إلا ابن ماجه. ووجه الاستدلال أنه حَكَم على صلاة جماعة بأنها نافلة، ويلزمه أن الصلاة الأولى وقعت صحيحة وأجْزأتْ عن الفريضة.
2 ـ حديث “والذي يَنتظِر الصلاة حتى يُصلِّيَها مع الإمام في جماعة أعْظمُ أجرًا من الذي يُصلِّيها ثم ينام” رواه البخاري ومسلم. ووجه الاستدلال أن التفضيل في الأجر يدل على أن الصلاة مع غير الإمام لها أجر، ويَقتضي أن تكون صحيحة، غير أن أجر الجماعة أعظم، ذلك أن أفعل التفضيل يقتضي المشاركة وزيادة، كما هو معروف.
وهناك أحاديث أخرى تُرغِّب في صلاة الجماعة بما يُفيد أن ثوابها أعظم من الصلاة المنفردة، وإن صَحَّت. وقد أجاب هؤلاء على أدلة المُوجِبين للجماعة فقالوا:
(أ) إن عدم ترخيص النبي ـ ﷺ ـ لابن أم مكتوم بالتخلف عن الجماعة ليس دليلاً على وجوبها حتى على ذَوِي الأعذار، وإنما ذلك لما يَعْلَمُه من حرص عبد الله على الخير مهما كلَّفه من جهد، ولما يَعلَمه أيضًا من ذكائه وفطنته واستطاعته حضور الجماعة بغير قائد، ويدل على هذا أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ رخَّص لغيره ممن له عذر أن يُصلِّيَ فى بيته، ولا يذهب للجماعة في المسجد، فقد روى البخاري ومسلم أن عتبان بن مالك ـ وهو ممن شهد بدرًا ـ قال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري ـ أي ضعف نظري ـ وأنا أُصلِّي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي بيني وبينهم، لم أستطع أن آتِي مسجدهم فأُصَلِّيَ بهم، ووَدِدْتُ يا رسول أنك تأتِينِي فتُصلِّي في بيتي فأتَّخِذَه مُصلًّى فاستجاب له وصلَّى فيه ركعتين. ولا يقال إن الترخيص لعتبان ـ وهو لعذر ـ دليل على أن الجماعة واجبة على غير المعذورين؛ لأنها لو كانت واجبة لقال له: انظر من يُصلِّي معك في بيتك، فعدم أمْره بذلك دليل على أن الجماعة سنة.
(ب) إن حديث الهم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة لا يدل على وجوبها، بل يدل على عدم وجوبها لأمرين، الأول: أن همه بترك الصلاة وإنابة واحد يُصلِّي بالناس دليل على عدم وجوبها، وإلا فكيف يترك واجبًا؟ ولا يقال إنه لو عاد من تحريق البيوت لأمْكَنه أن يَجِد جماعة يُصلِّي بهم، لأن وجود جماعة غير مضمون، والثاني أن الجماعة لو كانت واجبة تستحق تحريق بيوت المتخلفين، ما تأخر عن تحريقها معاقبة لهم على المعصية، لكنه لم يفعل فدل ذلك على عدم وجوبها وغايته أنها هامَّة.
(ج) إن أحاديث الهمِّ بالتحريق وَرَدَت في شأن المنافقِين لتخلُّفهم كثيرًا عن الفجر والعشاء، وذلك في رواية أبَي هريرة نفسه التي اتفق عليها البخاري ومسلم، فقد جاء في آخرها: (والذي نفسي بيده لو يَعلم أحدهم أنه يجد عَرْقًا سَمِينًا، أو مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ العِشَاء)، والعرق بقية لحم أو عظم عليه لحم، والمرماتان ما بين ظلف الشاة من اللحم. فالحديث منصب على من يُكثرون التخلف وبخاصة عن الفجر والعشاء، وهذا دأب الذين فيهم نفاق، جاء في بعض روايات الشيخين: (إن أثقل صلاة على المنافقين هي الفجر والعشاء..).
(د) إن الوعيد بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة يراد به الزجر لا حقيقته؛ لأن الإحراق لا يكون إلا للكفار والإجماع على منع إحراق المسلمين.
(هـ) إن فريضة الجماعة يراد بها صلاة الجمعة كما جاء عن ابن مسعود في صحيح مسلم، لكن رُدَّ هذا بأن التهديد يجوز أن يكون للتخلف عن الجمعة وعن الصلوات الأخرى وبخاصة الفجر والعشاء.
(و) إن فريضة الجماعة كانت في أول الأمر لحرص النبي ـ ﷺ ـ على حضور الناس جميعًا معه لتبليغ الوحي وإرشادهم ثم نُسِخَ الوجوب.
قال الحافظ ابن حجر: ويدل على النسخ الأحاديث الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفَذِّ، أي المنفرد لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل التفضيل، ومن لازمه الجواز، هذا بعض ما قيل في مناقشة أدلة الموجبين، إلى جانب أن الوجوب فيه حرج، والأرض كلها مسجد.
الرأي الثالث:قال الشافعي في أحد قوليه وجمهور المتقدمين من أصحابه وكثير من المالكية والحنفية.
إن صلاة الجماعة فرض كفاية، يجب على أهل كل محلة أن يقيموها، وإذا أقامها بعضه سقط الطلب عن الباقين، وكانت في حقهم سنة ـ وذلك لإظهار شعيرة الإسلام بإجابة المؤذن وإقامة الصلاة، وسند هذا القول ما ورد من الأحاديث المؤكدة لفضلها والمحذِّرة من تركها، ويوضحه أو يبين حكمته ما قاله ابن مسعود ـ كما رواه مسلم ـ : ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يُصلِّي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وفي رواية أبي داود لكفرتم، والمراد بسنة النبي دينه وطريقته لا السنة بمعنى المندوب، فإن ترك المندوب لا يؤدي إلى الكفر والضلال.
وهذا الرأي الثالث له وجاهته وهو كون الجماعة فرض كفاية على المجموع يسقط بأداء بعضهم، وسنة مؤكدة في حق الجميع، أي في حق كل واحد على حدة، وأداء الجماعة في المسجد أفضل من أدائها في البيت أو السوق بنص حديث البخاري ومسلم ” صلاة الرجل في جماعة تفضل صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين درجة، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت تحبسه، وما تزال الملائكة تصلي عليه ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث فيه”.
وقد رأى جماعة أن من له زوجة أو أولاد يصلى بهم في بيته، ولو تركهم وصلى في المسجد مع الناس لتركوا الصلاة، فإن صلاته جماعة بهم أفضل من تركهم وصلاته في المسجد، ما دام هناك من يقيم صلاة الجماعة فيه غيره، وأما حديث “لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ” فليس بصحيح، ولو صح لكان المراد به نفي الكمال لا نفي صحة الصلاة ـ ذكره المناوي في “فيض القدير” على “الجامع الصغير” للسيوطي.
وكان المسلمون الأولون حريصين على صلاة الجماعة وإقامتها في المسجد لمضاعفة الثواب، حتى إن الرجل منهم كان يؤتي به يهادى بين الرجلين ـ أي يسندانه ـ حتى يقام في الصف كما رواه مسم عن ابن مسعود.
وقد اخترنا الرأي الثالث جمعا بين الأحاديث التي يُشعر ظاهرها بالوجوب وبين الأحاديث التي تدل على الندب لما فيها من الفضل، والجمع بين الأحاديث أفضل من إهدار بعضها.
أما صلاة الجماعة للنساء في المسجد فليست واجبة ولا مندوبة؛ لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل، كما نصت على ذلك الأحاديث المقبولة، ولو صلت في بيتها جماعة كان أفضل على ألا تكون إمامًا لرجل.
ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى تفسير القرطبي “ج 1 ص: 348” والمغني لابن قدامة ج 2 ص2.