إن اهتمام الإسلام بتزكية الجانب الأخلاقي في المجتمع لا يقل عن اهتمامه بالجانب العقدي، ولذلك حصر النبي –ﷺ- مهمته في قوله (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
ورعاية الجانب الأخلاقي وحراسته هي مهمة المجتمع بأسره بل إن هذه الأمة لم تستحق الخيرية إلا بعينها الساهرة على مراقبة سلوك أفرادها وتهذيبهم وإرشادهم، قال سبحانه: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).
والمجتمع الذي تندثر فيه أخلاق المؤمنين وتشيع فيه أخلاق الفاسقين إنما يحفر قبره بيده فهو كالجسد الذي يجري فيه السرطان طال الزمن أم قصر فهو في طريقه إلى الزوال فحقا: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
يقول فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي:
إن مهمة المجتمع بالنظر إلى الأخلاق والفضائل، كمهمته بالنظر إلى العقيدة والمفاهيم والشعائر والعواطف.
إنها مهمة ذات ثلاث شعب:
1- التوجيه.
2- التثبيت.
3- الحماية.
أولا-التوجيه:
يكون بالنشر والدعاية ومختلف وسائل الإعلام والتثقيف، والدعوة والإرشاد،
ثانيا- التثبيت:
يكون بالتعليم الطويل المدى، والتربية العميقة الجذور، على مستوى الأسرة والمدرسة والجامعة.
ثالثا-الحماية تكون بأمرين:
1- برقابة الرأي العام اليقظ الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويكره الفساد وينفر من الانحراف.
2- وبالتشريع الذي يمنع الفساد قبل وقوعه، ويعاقب عليه بعد وقوعه، زجرًا للمنحرف وتأديبًا للمستهتر، وتطهيرًا لجو الجماعة من التلوث.
وبهذه الأمور من التوجيه والتثبيت والحماية تسود أخلاق الإسلام، وتسري فضائله في حياة المجتمع سريان العصارة الحية في الغصون والأوراق:
-فليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تختفي فيه أخلاق المؤمنين، لتبرز أخلاق الفجار.
-وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تموت فيه أخلاق القوة، فتحيا وتنمو أخلاق الضعف.
-وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يشيع فيه خلق القسوة على الضعفاء، والخضوع للأقوياء.
-ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تضمر فيه تقوى الله، ومراقبته تعالى، والخوف من حسابه، فنرى الناس يتصرفون وكأنما هم آلهة أنفسهم، وينطلقون وكأنما ليس هناك حساب ينتظرهم، وإنما هم في غفلة معرضون، وفي غمرة ساهون.
-ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يسوده التواكل والعجز والسلبية، في مواجهة الأمور وإلقاء الأوزار على كاهل الأقدار.
-ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يهان فيه الصالحون، ويكرم الفاسقون، ويقدم أهل الفجور، ويؤخر أهل التقوى.
-ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يُظلم فيه المحق، ويُحابَى فيه المبطل، ويقال فيه للمضروب: لا تصرخ، ولا يقال للضارب: كف يدك.
-ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تفسد فيه الذمم، وتشترى فيه الضمائر، ويقضى فيه كل أمر بالرشوة.
-ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي لا يوقر فيه الكبير، ولا يرحم فيه الصغير، ولا يعرف لذي الفضل فضله.
-ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تتميع فيه الأخلاق، فيتشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال.
-ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تشيع فيه الفاحشة، ويفقد فيه الرجال الغيرة، ويفقد النساء الحياء
-ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي لا يكاد الناس يتكلمون فيه أو يعملون أو يتصرفون إلا رياءً ونفاقًا، وطلبًا للشهرة والجاه، ولا تكاد ترى فيه جنديًا مجهولاً، من المخلصين البررة، والأتقياء الأخفياء، الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا.
-ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تسوده أخلاق المنافقين من كل من حدث فكذب، ووعد فأخلف، وائتمن فخان، وعاهد فغدر، وخاصم ففجر.
-ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يهمل فيه الآباء الأبناء، ويعقّ فيه الأبناء الآباء، ويتجافى فيه الإخوان، وتتقطع فيه الأرحام، ويتناكر فيه الجيران، وتنفق فيه سوق الغيبة والنميمة وفساد ذات البين وينهزم فيه البذل والإيثار أمام الشح والأنانية وحب الذات.
فالمجتمع المسلم -ولا شك- “مجتمع أخلاقي” بكل ما تحمله كلمة “الأخلاق” من شمول وسعة، ليس مجتمعًا تسيره المنافع المادية، أو الأغراض السياسية، أو الاعتبارات العسكرية وحدها.
كلا.. بل هو مجتمع تحكمه فضائل ومثل عليا، يلتزم بها، ويتقيد بحدودها مهما يكلفه ذلك من مشقات وتضحيات، ولا عجب في ذلك فقد قال رسول الله -ﷺ-: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” (رواه ابن سعد والبخاري في الأدب المفرد والحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة -صحيح الجامع الصغير: 2349).
فلا انفصال في هذا المجتمع بين العلم والأخلاق، ولا بين الفن والأخلاق، ولا بين الاقتصاد والأخلاق، ولا بين السياسة والأخلاق، ولا بين الحرب والأخلاق، وإنما الأخلاق عنصر يهيمن على كل شئون الحياة وتصرفاتها، صغيرها وكبيرها، فرديها وجَماعيها.